الأربعاء 15 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

اليسار الجديد وتقديس الخطيئة

اليسار الجديد وتقديس الخطيئة
18 ابريل 2019 02:50

محمود قرني

عندما أطلق «هربرت ماركيوز» صيحته عن «يسار جديد» ضد البيروقراطية النقابية وكل الأشكال السياسية التي تحالفت مع البرجوازية، كان يعني بالضرورة أن ثمة فساداً لحق بمشاريع الهيمنة الفكرية والسياسية التي تتبناها النظم الشيوعية في معظم أطروحاتها النظرية والإجرائية. لذلك تفاقمت الخصومة بينه وبين الاشتراكية التقليدية التي صعدت مع صعود البلاشفة. ومن هنا حاول ماركيوز أن يطرح خطاباً أكثر مرونة لاحتواء قوى جديدة، وإن كانت متناقضة الطموحات والأهداف، إلا أنها جميعاً كان ينتظمها العداء السافر للنظام الرأسمالي، فيما بدا وكأنه حشد لقوى تمثل صورة من صور العصيان السياسي حسب تعبيره. وكانت ترجيعات ثورات التحرر في العالم الثالث واحدة من الأصوات التي تبناها ماركيوز كمرجعية لفكرته، وكان هذا الخلط بين أصوات قوى متناقضة يكشف عن التحالفات التي نشأت في فترات متأخرة بين فصائل سياسية شديدة الرجعية وبين اليسار الجديد حتى في أقصى صوره تقدماً.
كان احتقار السياسة ورفضها واحداً من ملامح التوجهات الجديدة، فقد اعتبر ماركيوز أن السياسة مأساة شكلية لا تلبي طموحات التغيير الجذري لدى التكوينات ذات الطبيعة الطبقية، لكن ذلك لا يعني الانصراف عنها كلية، بل اتجه التيار في جملته إلى الانتفاض ضد السياسات القائمة بما فيها كافة التكوينات الحزبية. لقد شغلت فكرة السيطرة على الإنسان مساحات كبيرة من فكر ماركيوز واعتبر أن الطبقة الراقية محض ثراء يتسم بالفحش، وأن البروليتاريا التقليدية ظلت وستظل محرومة من أية امتيازات في تلك السياقات الحضارية التي تفتقر إلى أدنى صور العدالة.

المرض والعلاج
غير أن الفصائل الأكثر راديكالية وعلى رأسها الفصائل التروتسكية بالغت في تعظيم تلك الصورة الطوباوية بالمزيد من التحالفات غير الموضوعية حتى وصل الأمر بهم إلى الطعن في تراث «غرامشي» الذي أسس لفكرة «المثقف العضوي» لدرجة دفعت واحداً من نشطاء اليسار الجديد هو «كريس هرمان» إلى القول بأن أفكار غرامشي تعرضت للتحريف لكي يسلبه فضيلة الاختلاف. وعلى العكس منه، كان الروائي والشاعر الفرنسي «برنار نويل» الذي اعتبر نفسه مريضاً مثالياً بالنموذج الثوري لـ«غرامشي»، وقد كتب رواية فاتنة عن نهايته الفجائعية في سجون الفاشيست صدرت عام 1994 وترجمها الشاعر بشير السباعي تحت عنوان «حالة غرامشي». غير أن مرض «برنار نويل» لم يكن عَرَضاً من أعراض تقديس الخطيئة الشيوعية أياً كان نوعها، بل كان مرضه بالرجل انحيازاً موضوعياً لطموحات أكثر أخلاقية وعقلانية لـ«اليسار الجديد» الذي رأى الفاشيست أنه يمثل خطراً حقيقياً على امتيازاتهم، لذلك قال ممثل الإدعاء في محاكمة غرامشي: «لابد من منع هذا الدماغ من العمل عشرين سنة»، وعلى ذلك ظل الرجل في السجن حتى رحيله بنزيف في المخ عام 1937 تحت تأثير التعذيب.
«برنار نويل» يقدم هنا صورة من صور الولع الإنساني الذي لم يتحول معه تراث غرامشي إلى سلطة عقائدية، وتلك المسافة هي التي سمحت لـ«نويل» بأن يختلف مع الكثير مما دونه غرامشي في دفاتر السجن وربما في غير ذلك من أفكار. ورغم أن غرامشي أثر تأثيراً بالغاً في رموز اليسار الجديد مثل نعوم تشومسكي، إدوار سعيد، إقبال أحمد، طارق علي، كريس هرمان.. وغيرهم، إلا أن تلك التأثيرات لم تعصم الكثيرين من سكان الفضاء الثوري من الوقوع في أسر المثالية التي رأى غرامشي أنها أسوأ وظائف المثقف التقليدي. لذلك ظل يرى أن الحزب الثوري هو وحده القادر على خلق مثقفيه، وأنه لا يمكن لمثقفين محترفين وطبقيين ظلوا لصيقين بالسلطة منذ نعومة أظفارهم أن يكونوا قادرين على صياغة العقل الثوري الجديد الذي يخلو من المركزية والتمايز ومن ثم يخلو من الامتيازات السلطوية التي يبحث عنها ذلك المثقف الممسوس بشهرته وأوهام خلوده. وقد رأينا كيف أن انتقاد المركزية الأوروبية في نقد ما بعد الاستعمار لإدوارد سعيد لم يكن عاصما من أخطاء فاحشة تبين بعد ذلك خطلها الفادح لاسيما فيما يتعلق بذلك الخلط بين الانتصار للإسلام كمكون ثقافي وحضاري وبين الإسلام الذي أعادت إنتاجه جماعات الفقه الأسود لتخلق منه، في النهاية، نموذجاً معادياً للإنسانية بتعاليه وصفويته وإقصائيته حتى بالنسبة للملايين من معتنقيه. ولأن تلك الحقيقة باتت أكثر سطوعاً في أذهان الملايين بعد اندلاع ما يسمى بـ«الربيع العربي»، فسوف يظل مدهشا للكافة استمرار اليسار الجديد في دعوة الضمير الأوروبي إلى الاغتسال من جرائمه بإعادة الاعتبار لممثلي الإسلام السياسي. هذا في حد ذاته ليس أكثر من نكتة سخيفة تضاف لسجل النكات التي يحشدها اليسار الجديد في مواجهة نموذج الدولة التقليدية، ومن ثم فهو يرتكب جريمة لا تقل فداحة عن جرائم الحقبة الاستعمارية نفسها. وأظن أن جانبا ليس قليلا من سوء الفهم الذي يكتظ به حوار من هذا النوع يعود إلى أن أدوات التحليل السياسي لدي هؤلاء، وإن زعمت معرفة وثيقة بواقع الثورات العربية، إلا أنها في الحقيقة تنكر معطياتها على الأرض ومن ثم تعود إلى أدواتها التحليلية القديمة معتمدة على حقائق بالية تجاوزتها تلك الثورات. ولعل الدعم الذي تلقاه جماعة الإخوان من مفكرين ومثقفين عرب وأجانب هو أحد أبرز تلك الجرائم. وربما لم يصل إلى أفهام اليسار الجديد أن الشرق المسلم لم يعد في حاجة إلى هذا النوع من التعاطف.

أخطاء تشومسكي
لقد عايشتها بنفسي، صورة عن التداعيات الفكرية لليسار الجديد، مع بداية حكم الإخوان في مصر. فقد ذهبتُ لمتابعة محاضرة لواحد من رموز هذا التيار في الجامعة الأميركية هو «نعوم تشومسكي»، فأذهلتني مساحات من التعاطف غير المشروط مع حكم الإخوان، ثم أذهلني أكثر أنه يروّج لأكاذيب لا أساس لها من الصحة حول أن دولة الإمارات تتحالف مع الدولة التقليدية في مصر ضد الإخوان المسلمين لأن الإخوان جادون في شق قناة السويس الجديدة التي ستدفع ميناء دبي للتوقف تماماً عن العمل. وقد سقط الإخوان وتم شق القناة الجديدة وشاركت الإمارات في مشروعات ضخمة في مصر من بينها مشروعات ضمن محور تنمية القناة نفسها، دون أن يكون لكلام تشومسكي أية ظلال من الحقيقة. لا أشكك طبعاً في نوايا تشومسكي الذي ظل مؤيداً عتيداً للحقوق العربية وظل واحداً من أهم نقّاد الإمبريالية الأميركية، بل أتصور أن عطباً خطيراً أصاب أدواته في الفهم والتحليل. فحتى الآن لم يدرك تشومسكي ورفاقه أن مثاليتهم لم تكن عاصما من ظلم الظالمين ولا استعمار المستعمرين، والحلم الماركسي جملة لم يكن عاصماً من أن يكون هناك ستالين وهتلر، كما لم يكن عائقاً أمام تمدد الإمبراطورية البريطانية ثم نشأة الحركة الصهيونية مدعومة من الرأسمالية وشركاتها حول العالم. وقد كانت هذه الانتصارات تمثل دعماً أخيراً للمركزية الأوروبية التقليدية ومفاهيم الاستشراق القديم، وفي الوقت نفسه تمثل هزيمة قاسية في واقعيتها لكل الحالمين من ثوريي اليسار الجديد.
كذلك سأتوقف عند صورة ترتبط بردود أفعال تلك النخبة إبان انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب كممثل للشعبوية الأميركية. ومن حيث المبدأ لا يمكن لمثقف، يؤمن بميراث التعايش كمفهوم حضاري، أن يدافع عن البعد الشعبوي الإقصائي وربما العنصري في توجهات الرئيس الأميركي. في الوقت نفسه لا يمكننا أن نتفهم ذلك التعالي الذي انطوى عليه خطاب المفكر الأميركي نعوم تشومسكي، كممثل بارز لليسار الجديد وللنخبة الأميركية على السواء، عندما يؤكد أن نجاح الرئيس الأميركي المنتخب نتاج مجتمع متداع، ويمثل سابقة لا تنتجها المجتمعات الصناعية المتحضرة. التعالي هنا لا يستغرق فحسب التصورات الشعبوية لترامب، بل يشمل كذلك أكثر من نصف الأميركيين ممن لهم حق التصويت في الانتخابات الرئاسية والذين انتخبوا ترامب بطبيعة الحال، بما في ذلك المرأة التي أهينت ضمن مقولات سابقة له، والتي تمثل الآن ما يداني 51% من تعداد السكان. ولا تختلف قراءة تشومسكي لنتائج الانتخابات الأميركية الأخيرة من واقع أن النتائج التلفيقية التي ينتهي إليها هنا لا ترتبط فقط بدعوته لاستئصال ترامب على غرار ما فعلت المؤسسات الحزبية الكبرى مع مرشحين شعبويين مثل «ميشيل باكمان» و«ريك سانتورم»، بل كان يجب أن ترتبط أيضاً بمواقف النخبة التي عملت بشكل أو بآخر، منذ تقويض اليسار الأميركي في أربعينيات القرن الماضي، مع كافة الأجهزة النافذة على تهميش ملايين الأمريكيين من البيض وغير البيض. وانتهى الحال بمجتمع تجاوز تعداده ثلث المليار نسمة إلى أقلية ثرية لا يتجاوز تعدادها الـ 1%. ويبدو أن «جاك رانسيير» كان محقاً عندما قال، إن المجتمعات في كل زمان ومكان ستظل خاضعة لصفاقة «الأوليجاركية».

صراع مفاهيمي
ولاشك أن تشومسكي كان يعلم وهو يدلي بتصريحاته تلك أن تجار السلاح وأعضاء المجمع الصناعي كانوا يحشدون، بأعلى كُلفة ممكنة، لإنجاح «هيلاري كلينتون» التي كان مقدراً لها استكمال مشروع مستشار الأمن القومي الأميركي «زبجينو بريجنسكي» بإعادة ترتيب الشرق الأوسط قبل الهروب إلى كمائن الثروات الطائلة في الفضاء الأوراسي كساحة مركزية للعالم الجديد، وهو عالم يجب أن تتحول فيه الصين وروسيا واليابان والهند الديمقراطية إلى صبيان مهمتهم حراسة هذا التمدد الإمبراطوري أو النظام الأمني الجديد كما أطلق عليه «بريجنسكي».
ويبدو أن ذلك الصراع المفاهيمي، الذي تصاحبه جسامة في سوء التقدير، هو التعريف النموذجي لفكرة «التوحش النيو ليبرالي» التي تحتمي بمقولات ناصعة عن تاريخ الحريات بدعم كامل من تيارات اليسار الجديد. الفارق البسيط والجوهري الذي لم يدركه اليسار الجديد أن فكرة «حكم الشعب لنفسه» لم تعد أكثر من أنشودة رعوية حسبما يعبر «جان كلود ملينر» بعد أن تعرضت الحريات لاختبارات صعبة ولازال يقتل باسمها السود في دولة كان يترأسها رئيس من الملونين.
وقد تناول «هابرماس» تلك القضية الخطيرة في سياق نقاش موسع لآراء الجيل الأول من مؤسسي الحداثة، وانتهى إلى أن ذلك التماهي شبه التام بين قوى المعارضة والنظام في الديمقراطيات الغربية غدا معه المجتمع أحادياً رغم مظاهر الصراع الفوقي بين صقور يتنافسون فقط على مصالحهم، ما انتهى إلى فقدان الأمل تاريخيا في تغيير حياة تلك الجموع إلى الأفضل. لذلك فإن السؤال هنا لا يجب أن يكون لماذا فازت الشعبوية؟ بل لماذا أصبحت الشعوب تنظر إلى مثقفيها بكل ذلك الازدراء؟!

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©