الجمعة 3 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الطعام حياة والإطعام إحياء

الطعام حياة والإطعام إحياء
11 ابريل 2019 02:31

د. ألفة يوسف

من اللطيف أن نتبين أن الأكل إضافة إلى اتصاله الوثيق بالإنسان هو متصل أشد الاتصال بمفهوم المنع. فالمجتمعات البشرية تقسم الطعام تقسيمات مختلفة تسم بعضها بسمة إيجابية وأخرى بسمة سلبية. ولا يخرج القرآن عن أطر التنظيم تلك إذ يميز الله عز وجل بين الطيبات والخبائث: «الَذِينَ يَتَبِعُونَ الرَسُولَ النَبِيَ الأُمِيَ الَذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُ لَهُمُ الطَيِبَاتِ وَيُحَرِمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ...» (الأعراف7/‏‏‏‏157). وقد ذهب المفسرون في قراءة هذه الآية مذاهب مختلفة بين من يقصر الطيبات والخبائث فيها على الطعام ومن يوسعها إلى سواه.
إن منع بعض ضروب الطعام يذكر بالمنع الأول الذي واجهه الإنسان والذي نجد له صدى في القرآن. فالله تعالى يسمح لآدم وزوجه بأن يأكلا من الجنة حيث شاءا ولكنه في الآن نفسه يمنع عنهما شجرة واحدة: «وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَالِمِينَ» (البقرة2/‏‏‏‏35).
عندما يكون هذا المنع فعلا اختياريا ينأى الإنسان بموجبه عن الطعام، فإننا نكون بإزاء صوم أو ضرب من ضروب الحمية الغذائية، وفي هذا المقام نستحضر قول الحارث بن كلدة: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء». أما عندما يكون المنع عن الطعام إجباريا بسبب فقدانه أو نقصه، فإننا نلج باب الجوع والتجويع.

هبة إلهية
إن الطعام شأنه في ذلك شأن كل ما نملكه أو ما نتوهم امتلاكه في هذه الحياة هو من هبات الله تعالى للإنسان. يقول عز وجل: «الَذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ» (الشعراء 26، 78-79). الله تعالى هو المطعم الحقيقي. وعندما نقول إن الله تعالى هو الواهب للطعام، فإننا نشير إلى الواهب الجوهري، أو الواهب الأول. فالله مرسل المطر التي تسقي الأرض فتنبت الحب وتوفر مكونات الغذاء وتمكن البشر من الأكل. إن النظر في جوهر ما يسمح لنا بالحياة لا يمكن إلا أن يشير إلى الواهب المطلق. ولذلك نجد القرآن يذكر بهذه الهبة الأصلية بعض من ينسون بداهة وجود الله تعالى. يقول عز وجل: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًا * ثُمَ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ» (عبس 80، 24-32). هذه الآيات كلها تذكير بمراحل تجسم الطعام، والآية الأخيرة تؤكد مجال الهبة والعطاء الإلهيين: هذا كله بمراحله المتنوعة وأمثلته المعبرة هو لك أيها الإنسان، لك ولأنعامك.
لكن علينا أن نميز بين الهبة الجوهرية، والهبة الإجرائية. قطعا الله تعالى هو الواهب الجوهري، ولكن هبته تمر عبر أسباب ووسائط. ومثلما أن الطبيب هو الذي يداوي، والله تعالى هو الذي يشفي، فإن الله هو المطعم الأصلي، والناس في كل تجمعاتهم البشرية هم الذين يوزعون الغذاء على بعضهم بعضا وفق أساليب ونظم وقوانين تختلف من مجتمع إلى آخر ومن سياق تاريخي وحضاري إلى سياق آخر. وليس هذا الإقرار ناتجا فقط عن بداهة النظر وصرامة المنطق، وإنما يثبته القرآن نفسه: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَهَ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ» (يس 36، 47). هذه الآية في استنكارها كلام الكفار وموقفهم إنما تؤكد التمييز بين العطاء الجوهري للطعام ومصدرُه الله تعالى وحده، والعطاء بين البشر الذي يتجسم في ظاهر المعاملات بينهم.

قيمة الإطعام
ولئن كان العطاء للغير مما يحث عليه القرآن والحديث مهما يكن نوع العطاء، فإن هذا لا ينفي أن لإعطاء الطعام في الإسلام قيمة متميزة ودلالة عميقة. لا ننسى إقرار القرآن أن إطعام الآخر هو من صفات الأبرار الذين «...يُطْعِمُونَ الطَعَامَ عَلَى حُبِهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا» (الإنسان76، 8). وهذا الإطعام هو أيضا من صفات أصحاب الميمنة: «أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرُبَةٍ * أَوْ مسكيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَ كَانَ مِنَ الَذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ» (البلد90، 14-18). والحديث النبوي هو بدوره يضفي قيمة مخصوصة على إطعام الغير بما يجعله واحدا من أفضل الأعمال، إذ سأل رجلٌ الرسول صلى الله عليه وسلم: «أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف». بل لعل الإطعام مُنْجٍ من النار وويلاتها إذ يؤكد الرسول: «اتقوا النار ولو بشق تمرة».
لماذا كل هذه القيمة للإطعام؟ هل لأنه تجسيم عبر الوسيط البشري العرَضي للفعل الإلهي الجوهري إذ لا مطعم إلا الله تعالى وحده؟ ولكن هذا لا يميز الإطعام من سائر ضروب العطاء. نذهب إلى أن قيمة الإطعام منطلقها أن الطعام لازم للحياة شأنه في ذلك شأن الهواء الذي نتنفسه. يمكن للإنسان أن يلغي كثيرا من احتياجاته، ولكن حاجته إلى الهواء والغذاء مما لا يمكن إلغاؤه، والغذاء يشمل الماء أيضا. الطعام مع الهواء هما إذن أدنى مقومات الحياة. لذلك يكون إطعام الآخر بشكل ما تأكيدا لبعده الهووي الأعمق الذي يجعله كائنا حيا. من جهة أخرى، فإن بعض الحاجات تخص أفرادا أو جماعات من الناس دون سواهم، أما الحاجة إلى الطعام فمشتركة بين البشر كلهم، لذلك كان الإطعام تذكيرا بالمشترك البشري واحتفاء به. ولذلك أيضا كان الأصل في الإطعام أن يكون لوجه الله لا ينتظر القائم به اعترافا ولا جزاء من الإنسان: «إِنَمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا» (الإنسان76، 9).
إن الطعام حياة والإطعام إحياء. واتصال كليهما بشرط الوجود البشري يفسر أن ترشيد استهلاك الطعام وحسن التعامل مع توزيعه مندوب ومحمود من المنظور الديني. ولعل الرؤيا الواردة في سورة يوسف تثبت ذلك وتؤكده. فقد سأل الملكُ النبيَ يوسفَ تعبير رؤياه: «وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُؤْيَا تَعْبُرُونَ» (يوسف12، 43)، فأجاب يوسف عليه السلام: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إلِاَ قَلِيلاً مِمَا تَأْكُلُونَ * ثُمَ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَمْتُمْ لَهُنَ إِلاَ قَلِيلاً مِمَا تُحْصِنُونَ» (يوسف12، 47-48). إن نصيحة يوسف القائمة على الاقتصاد في استهلاك الطعام وعلى تفعيل الادخار وحسن التدبير قد أنقذت شعب مصر من مجاعة ممكنة وحمت الأهالي من هلاك جماعي قد ينتج عنها.

مسألة حارقة
إن المسألة الغذائية حارقة جدا عبر تاريخ البشر، ومنظورات التعامل معها متنوعة سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا. بل لعلها في تقاطع هذه المجالات جميعها. على أننا نعتقد أن للمنظور الروحاني لمسألة الغذاء دلالة كبيرة لا فحسب لأن الإسلام يوليها قيمة كبيرة، ولكن لأنه من المفارقات أن تكون الحركات الإرهابية المتسربلة بلباس الدين والمدعية أنها تستند إلى تعاليمه هي نفسها سببا في انتشار الجوع وتزايد مظاهر المجاعة. فقد أثبتت الدراسات الجيوسياسية الحديثة أن أغلب حالات نقص الغذاء والجوع توجد في مناطق النزاعات المسلحة لا سيما حيث الجماعات الإرهابية. وتؤكد هذه الأبحاث أن مناطق مثل اليمن والصومال ونيجيريا تشتمل على عدد كبير من السكان الذين يعانون نقصا في الغذاء. ولهذا الوضع أسباب كثيرة نكتفي بالإشارة إلى بعضها:
* إن الإرهابيين كثيرا ما يوجهون ضرباتهم العنيفة نحو البنى التحتية وقافلات المساعدات الإنسانية. وهذا ما ينتج مفارقة مؤلمة تتمثل في إنقاص الإعانات الغذائية والتحديد في عدد قوافل التزويد بالطعام خوفا من حصول الإرهابيين على الغذاء ومنعه عن السكان. وتؤكد أحدث الدراسات أنه في اليمن مثلا، ورغم المساعدات المتقطعة، فإن 250 ألف شخص هم في وضعية غذائية مزرية، كما أن انحسار الأمن الغذائي يهدد أكثر من عشرين مليون شخصا.
* الإرهاب مصطلح معناه في لفظه، إذ أنه متصل بجذر: «ر،ه،ب»، وهو يبث الرهبة والرعب في صفوف التجمعات البشرية. وترهيب السكان وإفزاعهم قد يحمل عددا كبيرا منهم على التخلي عن الاضطلاع بأنشطتهم الاقتصادية اليومية العادية. فلا ننسى أن كثيرا من الأراضي الفلاحية تكون خارجة عن مناطق العمران بما يزيد من احتمال تعرض المزارعين لهجومات إرهابية. وبديهي أن التقليص من استغلال الأراضي الفلاحية يقلص من موارد الغذاء.
* عادة ما يتزامن انتشار الإرهاب مع تفاقم الأزمات الاقتصادية. في سوريا مثلا، نتج عن الإرهاب في السنوات الأخيرة خسارة 226 مليار دولار. وأثبتت الإحصاءات أن الأسعار ارتفعت بنسبة ثماني أو تسع مرات عما كانت عليه قبل 2011، كما غدت أغلب الأسر تنفق أكثر من نصف مداخيلها من أجل تحقيق توازن غذائي عسر وعز. أما في نيجيريا، وبالتحديد في منطقة بورنو موطنِ الحركة الإرهابية (بوكو حرام)، فإن الوضع خطير جدا إذ يعاني ثلاثة ملايين شخصا من الجوع، ومنهم 250 ألف طفل. وتؤكد منظمة اليونيسيف أن هؤلاء الأطفال قد يموتون جوعا في حال غياب تكفل سريع ورعاية شاملة.
* عندما تتوسع الحركات الإرهابية وتسيطر على بعض الجهات من البلدان، يختار كثير من السكان الفرار واللجوء إلى مناطق أخرى آمنة. وقد تكون هذه المناطق متاخمة لمنطقة النزاع، أو بعيدة عنها. وفي الحالتين، فإن «اللجوء» عملية معقدة تستدعي وقتا حتى يتحقق استقرار اللاجئ في المكان المقصود. ويعاني اللاجئون نقصا كبيرا في الغذاء بسبب عدم قدرتهم على الاندماج السريع في الدورة الاقتصادية للبلدان التي تستقبلهم.
استنادا إلى ما سبق كله، نتبين بوضوح أن الحركات الإرهابية تنتصب في موضع مناقض تماما للدين فيما يخص التعامل مع مسألة الطعام والغذاء. الإرهاب ينتصر للموت إذ يساهم في انتشار الجوع لا سيما لدى المجموعات الهشة والضعيفة، والإسلام ينتصر للحياة داعيا إلى تقاسم الطعام مع الغير دون انتظار جزاء ولا شكور. الإرهاب يميز البشر إلى موالين له يستحقون البقاء ومختلفين عنه يستأهلون الفناء، أما الإسلام فيرى ترشيد استهلاك الطعام ضرورة ويعد إطعام الغير ثوابا وعطاء مهما يكن المنتفع بالغذاء. إن الإسلام يحيي والإرهاب يميت. و«...مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَمَا أَحْيَا النَاسَ جَمِيعًا» (المائدة5، 32).

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©