الثلاثاء 14 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من لا تصبو

من لا تصبو
6 يناير 2010 23:30
اخترق بشار سقف الحرية في عصره، فأوجع ذلك أصحاب السلطة، فأخذوا يتربصون به، بعضهم يتوهم أنه يدافع عن قيم المجتمع ويحميها من المفسدين في الأرض، وبعضهم الآخر يعرف أنه يتذرع بهذه الوصاية كي يحمي نفسه وسلطته من تجاوز الخارجين عليها، وقد آن لبشار أن يدفع ثمن تمرده على الأعراف، فيروي الأقدمون بداية المشهد بقولهم: “دخل خال المهدي عليه فقال له: يا أمير المؤمنين؛ لقد فتن بشار النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله: عجبت فطمة من نعمتي لها أيجيد النعت مكفوف البصر بنت عشر وثلاث قُسمت بين غصن، وكثيب، وقمر أذرت الدمع وقالت ويلتي من ولوع الكف ركاب الخطر” أي نبرة حميمة في تمثيل هذه الأبيات للمكنون والمسكوت عنه في علاقات المجتمع العربي القديم، فالبنت اسمها “فطمة” ـ دون مد للفاء كما نعهد في التسميات اليوم ـ وقد انخفض سقف عمرها الذي كان يؤثره بشار في العشرين ليقع في مرحلة المراهقة الباكرة في الثالثة عشرة، وهي قد قسمت في مراتب الحسن على ثلاث درجات عجيبة، تصور المثل الأعلى للجمال العربي لكل العصور، فنصفها الأعلى في رشاقته غصن لا أكثر، ونصفها الأسفل في امتلائه الريان كثيب لا أقل، أما وجهها فمنذ عصر بشار حتى اليوم فهو قمر لا غير، أما أنها درة مميزة قد اصطفاها التاجر الخبير فلا ينقص هذا من إنسانيتها في ذلك العصر، وهى في صبوتها وتهافتها تذرف الدمع خشية ورغبة مهووسة، وتهتف “ويلتي من ولوع الكف ركاب الخطر” وليس هناك أجمع في صفات المتحرشين المرغوبين من هاتين الصفتين: ولع الكف بالعبث والمقاربة واختراق الحواجز بارتكاب المحظور وتحدي الجسارة، فتقول الفتاة: أمتي؛ بدد هذا لُعبي ووشاحي حله حتى انتثر فدعيني معه يا أمتي علنا في خلوة نقضي الوتر أقبلت في خلوة تضر بها واعتراها كجنون مستعر يا أبي والله ما أحسنه دمع عيني عسل الكحل قطر أيها النوام هبوا ويحكم وسلوني اليوم ما طعم السهر صيحات الفتاة الصغيرة لأمها، وشكايتها المحببة بسذاجة مفرطة ونشوة مستسلمة تأتي في هذه الأبيات الوجيزة لتسبق الأوصاف القصصية المعاصرة بألف عام، فالرجل الذي يختزل في كف مولع بالعبث وجنان ركاب للأخطار يبدد لعب الصغيرة ويحل وشاحها، يا لجرأة هذه الصغيرة إذ تطلب من أمها أن تدعها معه في خلوة حتى يقضيان وطرهما المشترك، لكن الأم بدلا من ذلك أقبلت تضربها بجنون على هذا التهافت الفاضح، والعجيب أنها تستغيث بأبيها مستلذة دمع عينيها، هذه رواية الشاعر الفاجر الذي يختم قصته بهذه النهاية المداعبة للناس “أيها النوام هبوا ويحكم”.. المهم أن الأبيات بالفعل مثيرة، وقد كان المهدي معروفا بأنه رجل غيور، ولا شك أنه سيصب جام غضبه على الشاعر الجسور بعد هذا التحريض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©