الأربعاء 15 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحلم المستحيل

الحلم المستحيل
28 ديسمبر 2011 22:59
العدالة والحرية مفهومان يمثلان تطلعات الانسان عبر مراحل التاريخ وفي مختلف الحضارات الانسانية، وكانت هناك حضارات وثقافات تعلي قيمة العدالة، وأخرى تعلي قيمة الحرية، وفي الحالة الأولى كان يمكن للعدالة أن تتحقق، لكنها تؤدي الى استبداد سياسي، وفي الحالة الثانية تتحقق الحرية لكن ينتج عنها -غالبا- ظلم اجتماعي. وقد جعل الباحث د. محمد فتحي القرشي من هذه القضية موضوعا للدكتوراه في فلسفة السياسة من جامعة عين شمس. حفاوة تاريخية في الحضارة المصرية القديمة نجد احتفاء خاصا بالعدالة وقد أطلق عليها “معات”، فقد ربطوا بينها وبين واجب الملوك الفراعنة، ويبدو ذلك من البرديات والآثار المنقوشة على جدران المعابد، حيث نجد في متون الاهرام “أن الملك بيبي الأول بريء لأنه عادل أمام السماء والأرض وأنه يقضي بالعدل أمام رع”. وفي حضارة ما بين النهرين نجد في قانون حامورابي “أنا حامورابي عابد الآلهة أنشر العدل وأقضي على المرتشين وأمنع الأقوياء من أن يظلموا الضعفاء وأرعى مصالح الخلق، فليأت الي كل مظلوم، أنا ملك العدالة”. وفي بلاد اليونان كانت هناك حرية سياسية ومشاركة لكنها اقتصرت على الأحرار فقط، حيث استبعدت النساء تماما واستبعد الأجانب وكذلك العبيد، وكانوا الأكثرية. ونجد في الفكر اليوناني وعند أفلاطون وأرسطو تحديدا درجة من العنصرية الواضحة في الفكر السياسي، على الرغم من أهمية الأفكار التي طرحها كل منهما، والواقع أن الفيلسوفين الكبيرين لم يتمكنا من تجاوز العرف الاجتماعي والأخلاقي في المدينة اليونانية. وسار الفكر الغربي على هذا النحو حتى كانت العصور الكنسية المظلمة، والتي تم التمرد عليها بظهور النهضة الأوروبية، والتي انتجت الليبرالية. ويرى الباحث انه بسبب الاستبداد الملكي والامبراطوري المبرر والمسنود من رجال الكنيسة حدث رد فعل عنيف وحاد، فكانت الليبرالية التي اهتمت بالحرية فقط وأهملت البعد والعدالة الاجتماعية، وهكذا وجد الظلم الاجتماعي في ظل الحرية السياسية، وبسبب ذلك ظهرت الماركسية والدعوات الى الاشتراكية بمختلف مدارسها. الليبرالية والحرية على الرغم من كل ما يقال عن الليبرالية والرأسمالية المتوحشة، فلا يمكن إنكار أن الحرية السياسية قيمة إنسانية عليا، وأنها أتاحت للعقل حرية التفكير وحرية التعبير، وأعلت من قيمة الإبداع الإنساني، وجعلت الفرد قيمة في حد ذاته، لأنه إنسان بعض النظر عن جنسه أو دينه أو لونه.. وهذه القيم حدت من توحش الرأسمالية والظلم الاجتماعي. ولما جاءت الماركسية لتعلي من العدالة الاجتماعية وتحد من التفاوت الطبقي تطرفت بقوة في هذا الجانب، وقضت على الحرية بمختلف مستوياتها وأشكالها كي تقوم ديكتاتورية البروليتاريا التي تم اختصارها في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وبسبب قتل الحريات انهارت تلك النظرية بسرعة شديدة، وكان هذا الانهيار تأكيدا أن الحرية مطلب انساني يجب ان يتحقق للانسان لانه انسان. ويرى الباحث أن الاشتراكية والماركسية قامتا للقضاء على الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية، لكن الامر انتهى بملء خزائن اعضاء اللجنة المركزية للحزب بالأموال، بينما بقي عامة الشعب يعيشون الفقر، وكانت هناك نسبة قدرت بحوالي 20 في المئة من المجتمع السوفيتي تحت خط الفقر، أي أنه لا عدالة تحققت لهم، فضلا عن انهم سلبوا حرياتهم. بينما كانت الحرية والليبرالية قادرة على تصحيح أخطائها والانتباه الى السلبيات التي تنتج عنها سياسيا واجتماعيا. ومن قيم الليبرالية احترام حرية الانسان والمسؤولية الفردية، وحرية التعبير وهي في رأي المؤلف “تتفق مع الحرية السياسية وأمانة المسؤولية ومن المحاسبة وحق الاجتهاد والابداع في المفهوم الاسلامي، كما أن تأكيد الليبرالية على آلية الانتخابات والمجالس النيابية يتفق مع توجهات الاسلام لإقامة الحرية، ويضيف الكاتب بعدا جديدا، وهو أن موقع العدالة والحرية في المفهوم الإسلامي، ينظر لهما نظرة توازنية تتكامل بها الحرية مع العدالة في اطار تحرير الانسان من طواغيت الفساد والاستبداد”. الإسلام والحرية وعلى الرغم من اوجه التشابه التي يراها الباحث بين الليبرالية والحرية في الإسلام فإن هناك أوجهاً للخلاف، لعل أبرزها أن الحرية في الغرب قامت في اطار رد الفعل على الاستبداد في العصر الكنسي، ولذا فإن الحرية شابها التطرف، خاصة في الجوانب الاقتصادية، بينما الحرية في المفهوم الإسلامي تقوم على “الاعتدال”، وبسبب روح الاعتدال تلك حدث التوازن بين الحرية والعدالة، ومن ثم كانت هناك ضوابط للملكية في الاسلام، ومن حق الحاكم أن يتخذ اجراءات استثنائية لتحقيق العدل الاجتماعي والتوازن بين الفقراء والاغنياء. الاجراءات الاستثنائية التي يمكن للحاكم أن يتخذها ليست مطلقة، بل مرتبطة بظروف خاصة، وهي قلة موارد الدولة، وتعرض المجتمع لأزمة خانقة، كما حدث في زمن الخليفة العادل عمر بن الخطاب، عام المجاعة، ويمكن للحاكم في هذه الحالة أن يأخذ من أموال الأغنياء ليعطي الفقراء، هذه الاجراءات الاستثنائية هي المحظورات التي لا تتخذ إلا للضرورات التي تبيحها، ويشترط في تطبيق تلك الاجراءات الورع والتقوى، أي لا تتم بشكل انتقامي، ولا تنطلق من أحقاد خاصة على الاغنياء. والقاعدة في هذا كله أن المال في الأصل مال الله وينص القرآن الكريم في سورة الحشر “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم”. وكذلك الحديث النبوي الذي رواه أبوهريرة “ما نقص مال عبد من صدقه فتصدقوا”. يقول المؤلف إن هذا التأكيد للحرية والعدالة وارتباطهما الوثيق في المفهوم الاسلامي، يقي الحرية من أن تتضمن ظلما اجتماعيا، وكذلك لا يأتي العدل متضمنا الاستبداد بسبب الاعتداء على الحرية، فمن العدل أن يكون الانسان حرا، كما أن الحرية لا تكتمل الا بالعدل”. هذا التكامل بين الحرية والعدالة يحمي المجتمع من بعض المقولات الخادعة، مثل ما راج كثيرا عن فكرة “المستبد العادل” كما أنه يحمي المجتمع من قيام دولة دينية “نيو قراطية” فالدولة يجب أن تكون مدنية. عنوان الكتاب طويل نوعا ما “العدالة والحرية بين المفهوم الاسلامي والمفهوم العربي المعاصر.. دراسة مقارنة”، وقد استعرض المؤلف في دراسته رسالة الدكتوراة -آراء وأفكار عدد كبير من المفكرين والفلاسفة الغربيين المعاصرين، فضلا عن الفلاسفة القدماء مثل سقراط وافلاطون وأرسطو، كما استعرض أفكار عدد من المدارس الفكرية والفلسفية اليونانية والأوروبية الحديثة، لكنه في الجانب الإسلامي لم يركز على آراء وأفكار فقهاء ومفكري الاسلام، مثلا مدرسة المعتزلة، ولها دور كبير بمفكريها في قضية الحرية، وهناك فقهاء آخرون وتيارات آخرى كان اهتمامها بمفهوم العدل. ركز المؤلف على النصوص الدينية مباشرة، وهي القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ومن ثم فإن الدراسة هي للفكر الغربي مقارنا بالدين الاسلامي ذاته، والحقيقة أننا وجدنا جانب الدراسة المقارنة ضعيفا، ولكن نحن بإزاء درس يريد أن يقول لنا إن الاسلام كدين وكعقيدة يجاري الفكر الليبرالي في الحريات، وهو كذلك يجاري الفكر الاشتراكي في جانب العدالة، وإن تخلص الإسلام من تطرف ومبالغة الليبرالية والاشتراكية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©