الثلاثاء 28 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقل التاريخ... غياب المعايير

ثقل التاريخ... غياب المعايير
28 ديسمبر 2011 22:57
يمثل معرض “المرئي والمسموع” الخاص باللوحة الحروفية العربية تلك البؤرة الأساسية التي تَشَكّل من حولها، وبسبب ما تثيره هذه الحروفية العربية ومضامينها النظرية ونماذجها التطبيقية من أسئلة، مهرجان الفنون الإسلامية الذي تقيمه إدارة الثقافة والفنون بدائرة الثقافة والإعلام حتى بلغا معا، المعرض والمهرجان، دورتهما الرابعة عشرة التي تُختتم فعالياتها في الثامن من الشهر المقبل. ربما بهدف لم يُذكر من قبل أو لم تُشِر إليه أي من مطبوعات المهرجان أو الدليل الخاص بالمعرض ويتمثل في إحداث نوع من “التطبيع” بين اللغة العربية وسامعها في مجتمع بات متعدد اللغات واللهجات ويختلف فهمه لمنطوق اللغة من فرد إلى آخر من غير الذين هي بالنسبة لهم لغة أم أو أولى، و”التطبيع” هنا أيضا بين المرئي الذي يدركه السامع ببصره وما يتناهى إليه شفوياً، إنما في قالب فني غير مدرسي تجعل رجل الشارع العادي يصطدم بمكونات هذا المهرجان ومفرداته في حياته الطبيعية أثناء تنقلاته. أي نقل الفن من كونه مجرد لوحة ذات خصائص مميزة تشير إلى هوية الناس ودولتهم من المتحف إلى حالة تفاعلية من نوع ما. الحال أن اللوحة الحروفية العربية تنطوي على إشكالية معرفية “عويصة” حقا. إنها أشبه بكرة الصوف التي نكثتها القطة الصغيرة أثناء لهوها حتى عاد من غير الممكن التعرف على بداية الخيط الذي كانت قد انبنت عليه تلك الكرة، ليبقى السؤال الذي يطرح عن: من أين نبدأ بخوض إشكالية الحروفية العربية هو الأمر الذي يعلمه الجميع لكن المسكوت عنه في الوقت نفسه إلى حد الحيرة. إشكالية غياب المعايير لكن السؤال الذي يطرحه المرء على نفسه أولا هو: ما هي تلك المعايير التي اعتمدتها لجنة التحكيم فجعلت منهم أكثر انحيازا إلى هذه اللوحة الحروفية دون تلك؟ أهي الالتزام بالقواعد الكلاسيكية الصارمة لرسم الخط العربي التي تجعل من صناعة اللوحة الحروفية العربية أقرب إلى الحرفة منها إلى الفن؟ أم المعايير الحديثة التي بناء عليها تُمنح الجوائز في المعارض والبيناليات الكبرى في العالم؟ حقيقة الأمر، أن اللوحة الحروفية العربية من غير الممكن معاينتها تبعا لهذه المعايير لارتباطها تعبيريا بحاضنة ثقافية مميزة، بحيث أن هذا الارتباط الذي لا فكاك منه هو خصيصة بعينها تخصها وحدها فنيا بالدرجة الأولى ثم إحالاتها ومدلولاتها السياسية والجغرافية والتاريخية معا، فضلا عن مقدرتها التعبيرية عن واقع العصر الذي يتم إنتاجها فيه؟ هذا السؤال ستبقى الإجابة عليه مرجأة إلى حين - على ما يبدو- طالما انه ما من حراك نقدي أصيل يوازي إنتاج اللوحة الحروفية العربية يجعل من الناظر إليها قادرا على تمييز مستوى فنيتها وجماليتها بما هي عليه وليس بالقياس إلى سواها، لكن إن بقيت الحال على ما هي عليه فإن هذه الوفرة في إنتاج اللوحة الحروفية العربية لن يكون أكثر من لوحة تعيد إنتاج نفسها بأدوات مختلفة سواء أكانت تجنح إلى حداثة ما أم تذهب باتجاه محاكاة كلاسيكيات الخط العربي على صعيد البنية الفنية والجمالية ام على صعيد اشتغالها حِرَفيا بالمقاييس المتعارف عليها أو الاثنين معا. إشكالية الهوية للخروج من كرة الصوف تلك وإشكالية من أين نبدأ، فإن الجدوى الأكثر معقولية تتجسد في السؤال التالي: إذا كانت هذه الإشكالية تتمثل أساساً، وعلى الأرجح، بالوصول إلى تعريف واضح أو أكثر وضوحا لطبيعة العلاقة التي تربط بين البنية الفنية للخط العربي وبنية التكوين الفني بشكل عام في اللوحة الحروفية العربية الحديثة.. إذا كانت الإشكالية هي كذلك في حين أن الخط العربي هو “دال” على حاضنة ثقافية بعينها فهل الحروفية العربية الحداثية هي حاضنة بالفعل للخط العربي، كي تصبح حروفيةً وتأخذ اسمها منه؟ وأيُّ هويةٍ هي هذه الهوية؟ هل هي الهوية الذاهبة إلى الذات الصانعة لهذه اللوحة الحروفية أم إلى جمهور لا يستطيع أن يدرك في أغلبه هذه الهوية من فرط ما هي إشارية أو متخفية في طوايا البناء العام للوحة؟ أم هي هوية منفتحة على “الآخر” بحيث يمكن لهذا الآخر أن يتلمس ملامح الحاضنة الثقافية التي خرجت من خيمتها هذه اللوحة على وجه التحديد؛ أي أنها خرجت من خيمة هوية عِرقية ما، بالمعنى الموضوعي لكلمة عرقية وليس الأيديولوجي أو السياسي. لكن ماذا لو أن هذا الآخر قد نظر إلى حروفية إيرانية أو باكستانية أو إلى سواهما من الحروفيات التي تستخدم أحرفا غير عربية تتشكل منها خطوط وكلمات ومعان وإشارات ومدلولات غير عربية؟ الأرجح ان الحال يشبه هنا أن ينظر أحدنا إلى حرفيتين إحداهما صينية والأخرى يابانية، حيث لن يتلمس أغلبنا الفرق بين أيٍ منهما لجهلنا باللغتين في ذات كل منهما وفي الخصائص التي تميّز كل منهما عن الأخرى باستثناء أنهما بصريا ينتمي الخط في كل منهما إلى الخط الرمزي أو الصُوَري، بمعنى ان لصورةِ كل حرفٍ مدلولا بعينه وليس لكلمة. هنا فأيُّ معنى يبقى للحروفية بخصائصها المميزَة لها، أي معنى للهوية إذا لم يدركها الآخر بوصفها الهوية الغيرية بالنسبة إليه و”الأنا” بالنسبة إلي؟ وما الجدوى من أن أدركها أنا وحدي الذي أملك تصوري الخاص والمكتمل، تقريبا، عن الهوية التي تشير إليّ وتخصني إذا لم تُشِر إلي كـ “آخر” يمكن أن يعيه الآخر بوصفي أنا وليست ذلك الذي في الجوار الجغرافي والثقافي القريب؟ ذلك أن الهوية جدلا وببساطة شديدة من غير الممكن أن تكون “فاعلا” في محل تفكير أو “مفعولا به” إذا لم يكن هناك آخر. إشكالية المنجز والموروث هنا فإن سؤالا كبيرا يطرق جدران الوعي بإلحاح: قبل ذلك؛ هل يمكن للحروفية العربية التاريخية بالمعنى العميق للكلمة أنْ تكون لا تاريخية أيضا بما تحمله من نظام إشاري خاص بها؟ هذا السؤال يمكن طرحه على الحروفية العربية الراهنة بكل تياراتها واتجاهاتها الحداثية والكلاسيكية معا. هذه الإشكالية الأخرى تسير بالتوازي مع الإشكالية المطروحة سابقا. لكن هل هي إشكالية تخص تاريخ الفن أم تاريخ إنتاج الأفكار أم الهوية؟ أي وبلغة تطبيقية مباشرة ولا تخلو من فجاجة: هل أنتجت الحروفية العربية الحديثة خصائص تميزها كبنية فنية وجمالية في إطار الحركة التشكيلية العربية الراهنة عموما هذه التي تتوجه إلى إحداث تفاعل حيوي مع راهن الحداثات التشكيلية في العالم؟ ليس في صدد الإجابة عن هذه الأسئلة، إنما يلاحظ المرء ومن المتابَع لما يتم عرضه من لوحات حروفية في صالات العرض بالشارقة ومتاحفها، أن اللوحة الحروفية العربية الراهنة بكل أنواعها وأطيافها وتياراتها ما تزال غير قادرة بعد على استيعاب الإرث الهائل من الإرث الحروفي العربي المرئي، مخطوطا في الكتب أو في جدران العمارة الإسلامية بكل أنواعها ووظائفها، خاصة انه ما من جهد معرفي على مستوى النظرية أو التطبيق قد رافق نشأة هذا الفن واستمر معه، ثم ورثته اللوحة الحروفية العربية الراهنة بما يعين على استخلاص “طبائع” الحروفية التي تحدثت عنها بوصفها صنعةً لا فنا بعض من المصادر التاريخية الموروثة، ما يعني أن الحروفية العربية الآن غير مستفيدة من المنجز المرئي للحروفية العربية الموروثة وكذلك غير قادرة على استيعاب تاريخيتها والظرفية الزمانية والمكانية التي نشأت فيها مختلف مدارس الخط العربي بمراحله المتعددة والمتزامنة أحيانا، إذ أن تاريخ الخط العربي ليس تاريخا كرونولوجيا واحدا من الممكن تحقيبه وتوصيفه كما هو التاريخ السياسي أو الجغرافي للمنطقة العربية، ولعل غياب الجدل حول المرجعية التاريخية للحروفية العربية الموروثة والذي يعني غياب المرجعية التاريخية الواضحة لهذا الفن هو السبب في الارتباك والحيرة أمام هذه الثروة الهائلة من الحروفية العربية الموروثة، خاصة مع غياب ممارسة نقدية جادة راهنة أيضا. وعليه، فإن الالتزام بالقواعد الكلاسيكية لرسم الخط العربي لا تكفي وحدها لإنتاج لوحة حروفية عربية راهنة ولا تكفي لإنتاج فهم واضح لبنية وتاريخ الحروفية العربية الراهنة، وكذلك هي الحال في اللوحات الحروفية التي لا تلتزم بالقواعد الكلاسيكية حتى لو اكتفت بالحرف كإضافة تجريدية أو رمزية أو حتى تعبيرية على لوحة حديثة، فالأرجح أن الأمر سيبقى بلا طائل ما لم يُدرس ذلك الموروث وتُستخلص من دراسته عناصر راهنة لهوية عربية راهنة تشير إليها الحروفية العربية بما يجعلها حروفية عربية راهنة منفتحة على الآخر وليست حبيسة نفسها أو منغلقة تماما على ماضيها. يقول المرء ذلك ببساطة لأن الفن إجمالا هو تعبير فردي عن الذات، فكيف هي الحال عندما ينبني هذا التعبير على فن لم يكن تعبيره عن نفسه فرديا بل جمعيا دائما لجهة هويته والظرف التاريخي الذي نشأ فيه ثم ما طرأ عليه من تحولات وتغيرات لامست جوهر الفلسفة التي يقوم عليها فنيا وجمالياً، مثل “التجسيد” الذي ظهر لاحقا في هذه المدرسة أو تلك من مدارس الخط العربي بعد أن أن كان محرما فيها في حين لم يكن محرما في مدرسة أخرى متزامنة معها، بل نشأتا في سياق تاريخي وسياسي واحد. أخيرا، وعودة إلى معايير لجنة التحكيم الخاصة بالمرئي والمسموع، فإذا كان الخط العربي نخبويا في ماضيه، لارتباطه بالمقدرة على القراءة وليس حفظ الرواية، وفي مجتمع ثقافته شفوية بامتياز فإنه ما يزال نخبويا بعد حتى في اللحظة الراهنة ليس بسبب ضبابية الرؤية وغياب المرجعية فحسب، بل ربما أيضا لغياب السؤال حول ماهية هذا الفن ودوره الراهن ومعاييره وشروطه وحول ما الذي يريده منه الفنانون المنتجون والصانعون والمبدعون على حدٍ سواء. إن غياب السؤال يعني غياب الجدل والحوار عن الثقافة العربية حيث لا يعني هذا الغياب إلا حضور الموت. الفائزون بعد مرور عدة أيام على افتتاح مهرجان الفنون الإسلامية “تم الإعلان عن أسماء الفائزين بجوائز مسابقة “المرئي والمسموع” في دورته الرابعة عشرة، وهو المعرض الجماعي السنوي الذي يحتضنه المهرجان منذ دورته الأولى، وقد شارك في المعرض 30 فناناً من الإمارات، العراق، مصر، السودان، سوريا، باكستان، جزر القمر، حيث تنوعت الأعمال بين الخطوط العربية الأصيلة والمعاصرة التي نسج بها المشاركون أعمالهم متنقلين فيما بين الحروفية ولوحات الخط والأعمال الخزفية، ومعبرين عن محصلة الخبرات والرسوخ الفني الذي حققه كل منهم في طرحه الجمالي الساعي للتعبير عن أصالة الفنون العربية الإسلامية من خلال مسارات تمتاز بالتنوع الإبداعي، التشكيلي والتقني. وقد منحت جائزة الاتجاهات الحروفية إلى كل من الفنانين حسام أحمد عبد الوهاب من مصر عن عمله (حروفيات) و خليفة الشيمي من مصر أيضاً عن عمله (الرجا) فيما ذهبت جائزة الاتجاه الأصيل إلى الخطاط العراقي ماجد اليوسف عن عمله المنفذ بخط الثلث (إنه كان وعداً مأتياً)، كما نالت الخطاطة إيمان البستكي من الإمارات جائزة الفنان الواعد عن لوحتها (زخرفة). كما وتألفت لجنة التحكيم من الخطاطين: موفق بصل وخالد الساعي ووسام شوكت”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©