ضغط ذلك التبرم فوق القفص الصدري، كما يفعل عادة، داخل قاعة الإمتحان. غالبا ما كان هذا الحدث المتكرر يمثّل تعذيبا حقيقيا لي. لا أفكر بالنتيحة، ولا تعنيني تلك الشطرة الشعرية المبتذلة: “عند الامتحان يكرم المرء أو يهان”. المهم أن أخرج من هذا المحبس بأقصى سرعة. هكذا أفعل، وهكذا فعلت يومها. كنت أول الخارجين إلى الشارع الخالي، المستكين على غير عادته.. فحرّاس الفوضى ما زالوا داخل القاعات، يجاهدون أنفسهم أمام كرّاسات الأسئلة. سلكت الرصيف الضيّق باتجاه المقهى الحميم. كنت مشغولا بوضع علامات افتراضية لنفسي، وحسابها، مستبقا يوم الحساب المهين، عندما اعترضت سيارة أفكاري والرصيف. راح السائق يناور لركنها في مساحة ضيقة، غير عابئ بحقوق المارة، على عادة سائقي المدينة الغارقة بحروبها الصغيرة والكبيرة في ذلك الزمن. اختصرت العرقلة بالعبور إلى الرصيف المقابل. كانت ثلاث خطوات تكفي لكي أغادر الشارع وأصبح خارج المشهد. لكن حركة اليد كانت أسرع من حركة الأقدام. يد رسمت مشهدا دمويا للشارع ومن فيه. رصاص كثيف أحسسته يخترق طبلة الأذن. وهج حارق يخلّف بياضا في العينين. رائحة رماد تحاصر التنفس. كنت في شبه غيبوبة، أو غيبوبة تامة ـ لا أعرف حتى اللحظة ـ حينما استرجعتني منها دراجة نارية تزعق بجانبي، وفوقها إثنان شعرت بكتف أحدهما يلامس جسدي.. ثم يغيبان في ضبابة خلّفها ذلك الحصان الجامح. استقرّت الرصاصات في مواضعها المقدرة. كان الرجل الجالس بجانب السائق قد فتح باب السيارة، ما أتاح لساقه اليمنى أن تخرج دون أن تلامس الأرض. رأسه ويده خارج الشباك المفتوح. دماءه تنزف من فتحة في الجبين. وجهه أحمر. يده مسدلة وسبابته مرفوعة. هل كان يريد أن يقول لا؟ هل كان يتلو الشهادة؟ هل كان يشير إليّ طالبا المساعدة؟ تلك أسئلة سوف تلاحقني سنوات.. أسئلة تنبع من عيني ذلك القتيل، المفتوحتان على اتساعهما باتجاهي. كانتا جزيرة بياض وسط ذلك الأحمر القاني. كانتا مثل عيون شخوص رسامي عصر النهضة، تتبعان الرائي مهما تبدّلت زوايا النظر إليهما. أما على المقعد الآخر، فقد كان السائق الذي لم يكمل مناورته بعد، يحتضن المقود بانحنائة حنان، كما يفعل أب مفجوع. لم أر وجهه لكن دمه كان حارا. صدرت صحف اليوم التالي وخبر القتيلين في زاوية من صفحاتها الداخلية. فرصاص المدينة خبزها اليومي، والدماء في شوارعها أغزر من قهوة الصباح وشاي المساءات المتثائبة، وإقدام نظام عربي على “تصفية” إثنين من معارضيه، لن يغيّر إلا في الجداول الإحصائية. سوف يصبح مشهد الجثتين في تلك الصبيحة رؤية كابوسية لا تتزحزح. تحضر بلا دعوة وتقيم بلا سبب. تجد في فصول الحرب العبثية ما يغذيها دائما. تمارس سطوتها الكافكاوية حيث تستطيع، وتطلق أسرابا من “طيور” ألفرد هيتشكوك الغرائبية لكي تنهش العقل والروح. ظللت لسنوات أتجنب مشاهدة فيلم “أومن” The Omen، بهلوساته الدينية المتدثرة بقوة خفية تطلق رماحا غامضة تخترق الأجساد. كانت موسيقاه الجنائزية مثل منشار ينحر الأعصاب.. لكن أي أثر لكابوسية كافكا، وغرائبية هيتشكوك، وفظاعات الرماح القاتلة، الآن؟ ألا تكفي نشرة أخبار واحدة لكي تغني عن ذلك الخيال الأدبي الجامح أو المجنّح؟ ألا يبدو مشهد تلك الجثتين خارج قاعة الامتحان مجرد تدريب هواة؟ هؤلاء الذين قتلوا الديكتاتور وابنه، ووضعوا جثتيهما في متحف الفرجة الهذياني، ألا تجري في عروقهم دماء الكولونيل الذبيح؟ adelk58@hotmail.com