ألغت نظريات النقد الجديد هيمنة المؤلف على تلقي النصوص، وتوجيهه لقراءتها وانعكاس حياته ومعتقده في تلقي أو تفسير أعماله، لتجعل النص مرجعا وحيدا للتقييم والقراءة، تلتقي في متنه التأويلات والأحكام، لكن الإفراط في النصية، أو الانحباس داخل النص بعبارة ديريدا، أعاد الحاجة لموازنة ممكنة، لا تسرف في الابتعاد عن الإحالات المساعدة على قراءة النص، لذا أعيد دور القارئ في تشكيل العمل الأدبي عبر نظريات التلقي أو الاستقبال ـ في الاستعارة الفندقية التي لاحظها ياوس مازحا ـ فتمَّ الانتقال عمليا للحلقة الثالثة في التفسير الأدبي من المؤلف فالنص ثم القارئ، وبهذا التوازن المنهجي جرى تصنيم الشخص الممثل لآخر يحضر كمتلقٍ في عملية القراءة وإعادة إنتاج النص، وجرى تأويل دوره كفرد بذوق ومزاج وثقافة معينة، بينما كانت النظريات السالفة تريد أن تجعل القارئ موضعا تتركز عنده الأفكار والرؤى، وتتراكم الخبرة بالنوع وتحولات الأساليب، ويجري الاشتباك عبر عملية القراءة بتقابل ذخيرة القراءة ـ وهي استعارة حربية! ـ والتي تتمركز في ذاكرة القارئ وخبرته، مع ذخيرة النص ومستوياته الصوتية والتركيبية والدلالية. هنا تكونت سلطة جديدة ـ وهذه استعارة تقترض من السياسي ـ تلك هي سلطة القراءة التي فهمت خطأ على أنها سلطة القارئ كفرد متعين ومحدد، وليس الكائن التاريخي المتابع لمسيرة النصوص وتبدلاتها وتطورها، ومن هذه (السلطة) انبثقت دكتاتورية حديثة هي دكتاتورية القارئ التي تعني تسييده حكما وحيدا، بدلا عن سلطة القراءة بالمعنى المعرفي مقترنة بالوعي والإدراك، وهكذا جرى إسقاط الرؤى الاجتماعية والدينية والإيديولوجية؛ لتمحو أو تعدم النصوص المخالفة أو المنشقة، وحصر تداوليتها وفق الأحكام القطعية عليها. ولنمثل هنا بالاعتداء على نصوص ألف ليلة وليلة، ومصادرة المطبوعات دون تأمل ودراسة، كما جرى لكثير من الروايات والدواوين والدراسات الفكرية، كان ضحيتها أحيانا لا المتون وحدها كما في “وليمة لأعشاب البحر” مثلا، ولكن امتد ضررها لجسد الكاتب، كما جرى لنجيب محفوظ بسبب “أولاد حارتنا”، وهكذا يجري صنع صورة نمطية لأشعار المعري ونثره، أو الحكم على شخصية المتنبي وأدب المتصوفة، وكذلك قراءة نزار قباني وأدونيس وسواهما، فتأتي متونهم محفوفة بنعوت أفرزها قارئ دكتاتور لا يراجع ما هو خارج فكره وذوقه، وتمتد دكتاتورية القارئ إلى منهج التأليف وخطة النص، وهذا ما يشكو منه كل من تصدى لعمل مختارات شعرية او نثرية، أو كتب تأريخا للنوع الأدبي وريادته، أو تابع ظاهرة فنية ما، وأذكر أن الوسط النقدي العراقي تندر يوما من سلسلة مقالات عقَّب فيها صاحبها على كتاب نقدي فوضع لها عنوانا طريفا: “ما لم يقله المؤلف” فتوقعنا سلسلة لا تنتهي لأن ما لم يقله المؤلف لا حد له! وتواجهنا كذلك دكتاتورية مماثلة حين تسترجع ذاكرتنا قصائد ذات سيرورة خاصة؛ فينصب القارئ نفسه دكتاتورا فيقترح شعراء أو نصوصاً، مذكّرا بما كانت تعمله المؤسسات الرسمية والأحزاب من فرض شعرائها ونصوصهم على الذاكرة والذائقة والمنهجيات والرؤى.