ظل نموذج الشاعر الذي يريد أن يرى الجمال في النظام سائدا إلى الستينيات، ولكن حدث متغير مهم هو كارثة 1967، التي أطاح وقعها بالغ العنف بالعقل والاتزان، وكانت النتيجة أن كتب أديب بحجم نجيب محفوظ قصة مثل “تحت المظلة” يقوم فيها بتصوير المشهد العبثي الذي أخذ يراه من حوله، خصوصا بعد أن أصبح كل شيء يبدو لا معقولا، وصلاح عبدالصبور نفسه ضاع منه خيط الجمال في النظام، وسقط في شبكة الجنون مثل الملك عجيب بن الخصيب، فكتب عن مسافر ليل، وانفتح على مسرح العبث، خصوصا يونسكو وآراباك، أما جيل الستينيات في القصة القصيرة، فكتب واحد منهم، محمد حافظ رجب، عن مخلوقات براد الشاي المغلي، وكتب محمد إبراهيم مبروك ما هو أكثر جنوحا. أما في الشعر فقد هجر الشباب السبعيني صلاح عبدالصبور وحجازي ووجدوا ما وافق هواهم في أدونيس، ووصل الأمر بحلمي سالم الذي كان يكتب تنظيرات ماركسية للشعر إلى أن يستعين بالتنظيرات الأدونيسية، مبررا ثورته الحداثية مع أقرانه، وابتلع عبدالمنعم رمضان شعر أدونيس، وتمثله، وأعاد إنتاجه، وأصبح مجرى فرعيا في تياره الذي أصبح كاسحا بعد كارثة العام 67، ليس في مصر وحدها، ولكن على امتداد العالم العربي، وظلت النزعة التدميرية التي لم تخل من أبعاد سريالية صوفية هي الغالبة على شعر فقد المعنى في عالم ضاعت فيه كل المعاني. حتى محمد عفيفي مطر المولود مع أحمد عبدالمعطي حجازي، غادر طريقه القديم، ووجد نفسه في بحار الفلسفة والتصوف وما يلازمهما من عوالم قادته إليها دراسته للفلسفة وعشقه القديم لمحمود حسن إسماعيل، ولذلك وازى أدونيس، ولم يكن تابعا له، أو تلميذا في مدرسته. لكن كان لابد أن تنداح نوبة الجنون وتحل محلها نوبة الأسئلة التي غدت أكثر هدوءا، رغم رفضها الواقع، فبدأ أنسي الحاج يجاور أدونيس في التأثير، وتخلص محمود درويش من خطابيته، ودخل أفقه الإنساني الأعمق، فارتفع تأثيره على الأجيال الجديدة التي تعددت أمامها النماذج، الأمر الذي أدى إلى اختلاف المشهد، وصعدت قصيدة النثر التي لم يكن يتحيز لها محمود درويش، وأصبحت مهوى أفئدة الشعراء الشباب، لكنها ظلت مهمشة إلى اليوم رغم ذلك، لكنها حتى في كونها داخل الهامش، أعادت الاعتبار إلى أنسي الحاج، ولفتت الانتباه إليه، فأعاد الكثيرون اكتشافه، ولكن هل يعني ذلك أن الشعر المصري فارق عقلانيته القديمة؟ أشك أن هذا حدث، فقصائد حلمي سالم وما يقاربه في الاتجاه والأجيال الأحدث، لا تزال في مجرى غير بعيد من العقلانية التي لم يفارقها محمد سليمان أو حسن طلب أو الشعراء الأحدث. وعندما جاءت ثورة يناير لم يرتفع معها في ميدان التحرير سوى شعر خطابي، أغلبه زائل القيمة، بينما تألق عبدالرحمن الأبنودي، ومضت قصائد حجازي الذي هزته الثورة في طريق الفهم والبحث عن النظام في الفوضى الذي أصبحت مصر كلها في حاجة إليه.