لا أعادي القصيدة العمودية ولا أصادقها، وهو موقف ينبع من احترامي لكل أشكال الإبداع الشعري، عموده وتفعيلته ونثره، ولن أدعي بأن العصر لم يعد مناسبا للقصيدة العمودية، لأنه لا دخل لمعطيات العصر بالذائقة الشعرية والإيقاع الإبداعي المتوالد من الإيقاع النفسي والمخزون الثقافي والموروث اللغوي، إلا أن الشكل العمودي بما يتطلبه من هندسة وشكلانية ووعي مقصود ومتعمد خلال عملية الكتابة، استُهلك إلى درجة بات يكرر الأفكار والحكم والمقولات، حتى أنه بإمكاننا القول، أنه لا توجد قصيدة عمودية إلا وتتكئ في محتواها أو لغتها أو حكمتها على المنجز، ليس بمعنى المرجعية ولكن بمعنى الأخذ المباشر، والتناص الفج، ناهيك عن الحس الخطابي الذي يودي برهافة الفكرة والصورة الشعرية، ويطيح بتفاصيل الحياة التي باتت موضوعا للقصيدة الحديثة. أعمل جاهدا كي أنصت بعمق لشعراء القصيدة العمودية، وأحاول أن أبرر لأصحابها تعلّقهم بهذا الشكل، لكنني في كل مرة أرى قطعا كبيرا يحول دون تدفق الفكرة أو جرحا مؤلما يسيل دم المشهدية، بسبب اللهاث وراء البحث عن قافية مناسبة، أو إتمام عجز مناسب للشطر، كما أرى طربا ظاهريا بالبناء والإيقاع ولا أرى طربا سلسا في خلق الدهشة، وإن استطاع الشاعر خلق الدهشة فإنه يأتيها بعد أبيات كثيرة حتى تصبح كالولادة المتعسرة، وهنا تواجه القصيدة العمودية تحدياتها مع الاختزال والتكثيف المطلوبين لصياغة الدهشة وخلق المتعة، وتغرق في الإطالة غارقة في صبوة الانتشاء الهندسي والحركة العروضية، ولا يقتصر هذا الأمر على كتاب القصيدة المعاصرين، بل يوجد هذا الخلل في العصر الذهبي للقصيدة العمودية، حيث يمكن أن تستغني عن عشرات الأبيات في القصيدة الواحدة دون أن تشعر بفقدان ما، ودون أن يهتز البناء، ما يعني أن زوائد كثيرة تحتويها تلك القصيدة، التي كان الطرب يأخذ أصحابها، ولا يعيدهم إلى حالتهم الطبيعية إلا ناقد أو معارض فذ، يتهمهم بالحشو والإطالة الفارغة. وتصيبني الدهشة كثيرا، حين أقرأ شروط مسابقات شعرية تلزم الشاعر بالشكل العمودي، وبعدد الأبيات، تكريسا لهذا النمط الشعري، ظنّا منهم أنهم يحافظون على التراث، بينما هم يكرسون نمطاً تقليديا بات من الصعب التجديد فيه، ويصادرون حق الشعراء الآخرين من المشاركة، فمن قال بأن المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية هي حكر على شعراء القصيدة العمودية، ومن أخبرهم أن القصيدة الحديثة لا تستطيع معانقة الصوفيات والأخوانيات والاجتماعيات والوصف وغيرها، أليس هذا ضد توجهات المؤسسات الثقافية التي من المفترض أنها تسعى إلى التحديث والابتكار والإبداع ولم شمل المبدعين؟ وألا يدعو هذا إلى تغيير الوجوه المؤسساتية التي اعتادت على ما تعرف، وتصادر ما لا تعرف؟ بينما الجهل بالشيء وعدم استساغته لا يعطي الحق بمصادرته. الذائقة الفنية تغيرت في مجال الأغنية، ونسيت أو تناست أصحاب الطرب الأصيل، ولكنها تسجن ذاتها في القصيدة العمودية.. لماذا؟! akhattib@yahoo.com