الصورة بالأبيض والأسود، تنغرس في ملامحها، فتكون التفاصيل بعينيك، وتزخرفها بشيء من مشاعر تنبت فجأة في الذاكرة، أو ربما أنها تزيح شيئاً من الفواصل، فتبدو الصورة واضحة جلية، وبعفوية زمن تثب نحوك، تسطو على خيال جم، ينبت مترعرعاً، مترعاً بأشجان وألحان، وزمان ربما ذهب بأيامه وأحلامه، لكنه لم يزل يكمن في الداخل كأنه النخلة التي حازت الصحراء، ولم تزل تشدو بأوراق وأحداق، وأشواق، قلَّ أن نجدها في زمان كهذا.
اليوم، وفي هذه الساعة المباغتة، تخطفك الصورة وهي بين يديك تأخذك إلى حيث لم تزل أنت باق، ومتلاق، مع نفسك ومع الوجوه التي غابت أو تغيَّبت، تتكئ على أريكة الزمن، يساندك هذا الشوق العارم، لأشياء صغيرة، بعضها بهت وبعضها لم يتغير لونه ولا طعمه ولا رائحته.. أشياؤك الصغيرة التي كانت أكبر من منطقة القلب، وأوسع من حدقة العين، وأحر من جمرات الروح، وأرفع من قامة الجدران..
يقول لك صاحبك مدللاً، هذا أنت وذاك فلان، أما الذي يقطن الزاوية القصوى فهو فلان بن فلان.. وأنت تستغرق النظر وتعرف جيداً أنك لم تنس ولم تأس، ولكن الزمن هو الذي استلب جزءاً ليس يسيراً من النظر، لذا فلابد أن تتمعن، وأن تتيقَّن، وأن تتبيَّن، وأن تتعيَّن، لأنك لعبت مع فلان، ومازحت فلاناً، وتشاجرت مع فلان، ولم تزل علامة الجرح في الروح تتلألأ كأنها النجمة في السماء، والحب القديم..
القديم، يحتويك كما تحتوي الأرض، الأديم، وتقرأ وجهاً تتأمله، كما تتأمل الوجوه كله، تطير بك حافلة الزمن، بسرعة مذهلة، إلى أربعين عاماً أو أكثر، هناك حيث الآزفة، وحيث النزيف، وحيث الحادث الأسيف حين كُوِّرت الشمس، وكُشطت الجبال، وارتجَّت الأرض، وسُجِّرت البحار، هناك حيث أنت كنت تسأل عن الأسماء، والتفاصيل والناس والأحبة، فها هو صاحبك يباغتك بالصورة، والوجوه التي بدت كأنها الأحلام التي تعبر سنوات العمر، وتقفز فجأة، لتتذكرك وأحياناً تستفزُّك، وأحياناً أخرى تقتلك، لأنك تحايلت حين أعلنت السفر، وأسكنت قلبك في البقعة البعيدة من الزمن..
تنظر إلى صاحبك كما كان يرمقك بنظرات الدهشة، تقرأ وجهه جيداً، معاتباً، أو غاضباً، أو فرحاً، أو بين ذاك كله.. لماذا الآن بالذات، تأتي الصورة، فقد فقدان، ثم نسيان، ثم تحد من أجل البقاء حتى ولو بشق نَفَسْ.. وتعود للصورة، فتبتسم، وفي عينيك ماء من مجرى القلب، ليغسل الألوان ويطهرك، من غليل وعويل، بقليل من الزلزلة، وكثير من الأمنيات، بأن يمتع جميع من بقوا على قيد الحياة من رفاق الصورة، بالصحة والعافية.


marafea@emi.ae