قال أنا الحقيقة، فأُعدم. هكذا نطق الحلاج. في الحياة تبدو الحقيقة أمام الإنسان مثل صورته في المرآة، ولكنها في واقع الأمر ليست إلا صورة، أما الحقيقة كحقيقة، فهي أبعد ما تكون عن الإنسان. ولو كانت الحقيقة ملكاً للإنسان، وطوت يديه، فلماذا كل هذا العذاب الذي يقاسيه الإنسان. لماذا الصراع الأزلي الذي لم تنهيه كل العقائد والديانات والنظريات، وكل الثراء، وكل الرخاء، والترف والبذخ، وأسباب السعادة التي لم تجد ولم تثمر، ولم يستطع الإنسان الظفر بالسكينة والهدوء.
الحقيقة ألا ترى بالعين المجردة ولا تلمس، أنها تحس، ولكي يحس بها الإنسان، يحتاج إلى إحساس غير الإحساس الذي يطوي مشاعره، بلغط الرغبات والتطلعات والطموحات.
من يملك الحقيقة، لا يلزمه أن يعيش البحث عن الحقيقة، فالحقيقة ليس مادة نضعها، وعلينا البحث عنها تحت مخدة النوم، أو في مخبأ المعطف الذي نرتديه.
الحقيقة هنا، تحت الضلوع، لكنها لا تبرز طالما فكرنا فيها، وطالما قلنا يجب أن نكون حقيقيين. الحقيقة تبرز عندما نحن، وليس غيرنا الحقيقة تفصح عن كنهها عندما نتجرد من أفكار غيرنا.
الحقيقة كائن لا يقبل أنصاف الحلول، ولا أنصاف المواقف، ولا أنصاف الألوان. هي هكذا الحقيقة كامله مثل السماء، مثل الأرض.
الحقيقة مثل الطريق المؤدي إلى بيتك، عندما تكون على الشاطئ، فلا يمكن أن تمشي خطوتين، ثم تتوقف، وتقول لقد وصلت، عليك أن تتابع الطريق، ليأخذك إلى آخر نقطة في الطريق، إلى أول خطوة تدخلك باب بيتك. يجب أن تمشي، وتقطع الرحلة بكاملها فهي طويلة، ولكنها تصل بك إلى مكانك.
تستطيع أن تصل إذا تخلصت من الملل، وتستطيع أن تصل إذا توخيت الحذر من الاقتناع أنك حقيقي. فلا شيء حقيقياً من دون الحقيقة، والحقيقة تحتاج إلى أن تكون أنت في قلب الحقيقة، وحتى تكون كذلك عليك ألا تقع في خداع البصر، وألا تقف أمام المرآة، وهي تمتلئ بالغبار.
الغبار يعميك، ويضلك ويصور لك أي شيء غير حقيقي أنه الحقيقة. أنت عندما تحاور شخصاً ما، فلا تحاور قبل أن تضع حداً لنفسك التي تغويك، والتي تريد أن تقنعك أنك تمتلك الحقيقة. خذ قسطاً من الراحة، خذ وقتاً، حتى يصفو الماء في البئر التي تشرب منها، ثم اشرب، ثم تذوق ما تشربه جيداً، في حينها ستعرف أنك اقتربت من الحقيقة، وأنك والآخر شركاء في أي حقيقة، لأن الحقيقة ليست لك وحدك، الحقيقة هي من صلب الوجود، والوجود واحد، الوجود وحدة كلية تشترك فيها كل الكائنات، لو وصل إليك هذا الصوت الداخلي، ساعتها لن تكابر، ولن تقامر، بل سيسفر فيك الوعي، وتكون أنت والآخر، روحاً في جسد واحد، ستكونان قلباً في صدر واحد، وسوف ينتهي الصراع في الواقع، بل لن يكون الإنسان بحاجة إلى من يصارعه، ولن يجد من يصارعه.