ما بين القارة، والقارة، يعتريك حنين بحجم القارتين، تكون أنت الخيط الفاصل المتواصل، المتأصل، في تاريخ النكوص إلى عوالم ما قبل النشوء والارتقاء تبحث عن طفولتك المخبأة في ثنايا وطن سكن فيك قبل أن تسكنه، وتكون أنت الثمرة التي تعلقت بين أغصان الوطن، ويكون الوطن الشجرة التي حملت جل مشاعرك، وألقتها في تراب الأرض التي أنجبتك، ووسعت وعيك، وعلمتك كيف تكون الأحلام زاهية، عندما يكبر الوطن فيك، وعندما تكبر أنت، وتصبح طائرات بجناحي الحب والشوق.
تحت رداء البرودة القاسية، تبحث أنت عن ملاءة الوطن لتلف بقايا عمرك، تطوقه بصور، ومشاهد مرت هنا في الذاكرة مثل طيور غاربة تحاول أن تستعيد ذاتك، تحاول أن تستدعي العمر، كي يلتحف الكون، في حضور الوطن الذي تشب مشاعره فيك، كلما مر يوم بعد الفراق، تكون أنت في البعد الرمادي، وتحت ظل الغيمة، شمس تتدحرج خلف العتمة، تشعر وكأنك في حالة مخاض وجودي، يأخذك إلى أيامك التي تلاشت وراء الزمن، ويكون الزمن مثل نتف الثلج الدائرة حولك، تبحث عن ملاذ، وأنت هكذا تبحث عن مكان فيه صورة حبيب، كان في غابة القلب، غزالة تفر من قسورة، وأنت هكذا على مرأى من الغيمة والنجمة، تفض بكارة العمر، وتحتسي من رقاقة الماء المنحدر من أحشاء المجهول لا شيء يعزيك، وأنت في حضرة الحنين، سوى الحنين، إنه الغشاء الرقيق الذي يخفي تحته لواعج أزمنتك، وانكساراتك، وانهياراتك، وولوجك في مغبة صدمات كانت تصفعك مثل ريح حمقاء، وترديك في خضم الأسئلة، وأنت في طور النشوء كنت في الوطن شرنقة، وبعد زمن وجدت نفسك أمام مرأى من أسئلتك التي لا زالت تحيطك بغموض ما كنت تبحث عنه، أو بالأحرى يبحث عنك، وتستمر المجازفة وأنت في رحابة الوجود تقرع أبواب الكلمات، وترسم صورتك في الجملة المخصبة لعلك تقتفي أثر لقاء ما حدث في ساعة توهجك، كنت أنت الموجة، وكان العالم بحراً وعندما حاولت الخروج من البحر، داهمك الرمل، ومحارة فارغة، وبعض عطر، كان ذاك هو عطر الحبيبة، يحمله اليوم، الحنين، مضمخاً برائحة الوطن.
أود أن يقلب الزمان صفحات الدفتر القديم، لأضع السبابة على ذلك الاسم المزلزل، وأقول ها هو ذَا مكمن الجرح، هذه هي الرقية التي وضعت في عنق الكلمات، ولم تزل تسكن البوح، ولو بتلميح لا يقبل التصريح، ولو بإيماءة تدل على أن في يوم ماء اجتاحت الموجة سواحل القلب، فأجهضت كل محاولات التنفس بتلقائية.