كانت الطائرة تشق طريقها صوب مغتربنا الجديد في الجنوب الاميركي، طريق كأوديسة من الفراغ. لا شيء .. الركاب نيام والطائرة كفندق فراغي لا تريك من النوافذ الا مشهدا واحدا: غيوم فوقنا وتحتنا وعن شمال ويمين، حتى اذا حطت في نيويورك منتظرة، بدت الأرض كاستراحة مفاجئة سرعان ما استهلكها النوم والإفاقة السريعة للحاق بطائرة أخرى صوب الهدف. الجنوب: إنهم يختارون للجنوبي جنوبا كي تخف وطأة الغربة.. وتسترجع الذاكرة تنويعات الغربة: يتقدمها الغراب بهيبة سواده ونعيقه الذي لا يزيده مديح أدغار ألن بو إلا غرابة.. والغريب: الذي وصف التوحيدي غربته بالغريبة، والغرب الذي وصلنا ولكن إلى جنوبه! في الشوارع المحيطة بالمطار الأخير تحس طمأنينة عجيبة.. لا أحد مستعجل من أمره، لا المركبات والا السابلة. إنه إيقاع جنوبي بامتياز.. والجميع يبتسمون لتفسح أو يفسحوا، ولكن البسمات مجرد رشى لسكونهم.. أو إخفاء لعتبهم وسؤالهم، وتقنط إذ يحل غروب ـ مشتق من الغربة أيضا ـ زوال أكيد بانتظار شروق من الشرق الذي صار بعيدا. في القلب صراخ مكتوم مدمر؛ لأنه بلا صوت ولادموع.. صراخ لاتوازيه إلا صرخة الفم المشوه في لوحة مونش.. وبصدفة هائلة تكون صرخة مونش معلقة فوق مكتب الممرضة التي تحقن الأذرع بالإبر لمداراة المرض.. من يخشى من؟ نحن أم الآخرون؟ لأول مرة شهدت تعقيم طائرة في فرانكفورت، فاعتذر القبطان للركاب عن رش المبيد الذي ملأ فضاء الطائرة. هنا أيضا سلسلة من التعقيمات والمضادات والفحوص.. مداعبا الممرضة أشير لصرخة مونش: هل هذا ليشعر المريض أن ثمة عذابا أشد. تبتسم رشوة للفهم دون أن تفهم.. لا وجود لمونش ولا اللوحة في ذاكرتها. وهم الثقافة سيتبدد لاحقا وبالتدريج.. وتلك حكاية غريبة أخرى.. الجهل في الخلايا وتلافيف الوعي مقابل آلات تشتغل ذاتيا لتزيح العمالة وتزيد التوحد. كان البريد مغلقا لكنني لم أستلذ شراء الطابع من الآلة. منظر اليد تلصقه ضرب من ذكرى حميمية تستحق انتظار يوم آخر.. يوم لا يتم بداعي فرق التوقيت المضني عن الشرق، ذلك يجعلنا مستيقظين والآخرون هناك نيام، أو ننام وهم مستيقظون؛ لنطارد من بعد وقتا يتسرب رملا من بين الأصابع. البريد: منذ عيشي في اليمن صار صندوق البريد جزءا من يومياتي وصلتي بالعالم حتى بعد ازدهار “النت” والبريد الإلكتروني.. كان الصندوق بغباره وآثار الرسائل والطرود يشكل فرحا وانتظارا. حين أرشدتنا موظفة السكن إلى مكان تلقي بريدنا عجبت: كيف سيسع هذا الشق المستطيل المصمم لتسلم الفواتير والإعلانات لبريد اصدقائي والكتب: الكتب التي كان يفيض بها صندوقي ببريد معين قرب الجامعة؟ ولكن ماذا في أول بريد تسلمته: إعلان لصورة البيتزا العجيبة التي ستجعل الحياة أكثر سعادة! الدهشة تكتمل حين أدخل محلا لبيع المواد بدولار لأي شيء، فيذكرني بمحال البضائع الشعبية في رواية بريخت “البنسات الثلاثة”. للكتب ركن ومن بينها يطل غلاف بنقوش مصرية واسم الكاتب علاء الأسواني وروايته “شيكاغو” بترجمة فاروق عبدالوهاب!