على بعد ثلاثين كيلومتراً، تقبع المدينة المشاغبة، هناك يوجد العرب بكثافة، وتوجد حشرجة المغتربين، وهم يقفون على ضفاف بحيرة لومون، ويطلقون العنان للنظرات، علها تصل إلى ما لا تصل إليه الأجساد، فعلى الرغم من روعة المكان وأهله، إلا أن الأرواح تظل تخفق إلى أوطان غادرها البعض منهم ظلماً وزوراً، ولم يبق أمامهم إلا الأشواق، وهي ترسل رسائلها، إلى من لهم في الصدور نبض الحنين، والأنين.
والقلوب الملوعة، والمولعة، ترسم صوراً قاتمة، موشاة بخيط رفيع ربما يأتي بما لا يأتي.
أطفال، وكبار في السن يلهثون على الرصيف الأخضر، ويقطعون المكان بلهفة الضمائر المنتمية إلى الطبيعة.
هذه المدينة تعتبر المدينة الثانية بعد لوزان، يؤمها العالم من كل مكان، وبالذات العرب، ليستشفوا من رقاقة البحر واليابسة، هذا العناق الأزلي، وهذه الرفقة المدثرة بشرشف جداول الماء القادمة من غرابة الجبال الشاهقة، محملة بطعام الطير، المهيأ نزولاً، وارتفاعاً بحثاً عن خشاش الأرض، وما تنبته المياه الجارية من طحالب وعلق، يغري شهوة الطير في الاقتناص والصيد.
تمشي على حافة البحيرة، وتأخذك البرودة إلى مسافات بعيدة، ودون توقف، ترى كسوة الجبال من مخمل العشب القشيب، والأشجار الخضراء، كالأعلام ترفرف، مبتهجة بهذا النعيم الغريزي، وهذا الشدو المتطاير من أماكن مختلفة، وهذه المساحات الشاسعة من العيون، تفيض ببريق الدهشة، والشعور بأن الحياة ليست إلا رحلة، نحن جيادها، فإن أمعنّا النظر في مختلفات الطبيعة من طير وشجر، وبشر، سنجد أننا نهيم في عالم لولا الحروب والأحقاد، لأصبحنا في حديقة غناء، لا تشوبها شائبة، ولا تخيبها خائبة، سنجد أن أمكنة الناس مثل البحيرة وهي تجاور مدينة فيفيه، وسنجد وجوه العالم أجمع مثل وجه امرأة عجوز، اتكأت على عصا بيد، وفي اليد الأخرى، خبأت في كيس صغير، ما تحتاجه لطعام اليوم، والابتسامة الطفولية تكسو محياها العفوي، ومن عينيها شع بريق حب الحياة.
تسير في الطريق الجانبي بخطوات كفروج يتلمس خطواته الأولى، وتنظر إلى العالم بشفافية وقد ارتدت البنطلون الأسود، والقميص الأبيض، ولفت الجسد الرهيف بكنزة صوفية، وأردفت فوقها المعطف الجلدي الرمادي.
هذا مشهد من مشاهد الأحلام الزاهية في مدينة فيفيه، والحلم الأوروبي، يسكب رضابه على كل شفة، وثغر.