المشاريع الثقافية حين يتبناها أفراد، تكون مدفوعة غالباً بشغف شديد يملك الفرد ذاته. الكثير من هذه المشاريع يبدأ، ويستمر لفترة ثم يتوقف، والكثير منها أيضاً لا يدخل حتى مرحلة البدء نظراً للصعوبات والتحديات الكثيرة، والتي كثيراً ما تؤثر على شغف الفرد، فتجبره على التخلي عن حلمه ليحفظه في ملف مغلق في أرشيف الذاكرة، يستمر بعدها في حياته الاعتيادية الممكنة، متذكراً فقط بأسى من وقت لآخر أن هناك في أرشيف الذاكرة يقبع حلم لمشروع ثقافي كان يطمح لتحقيقه لولا الظروف الكثيرة التي حالت دون ذلك. في «بانيبال»، المجلة الأدبية الصادرة من لندن، والتي رهنت نفسها لترجمة الأدب العربي إلى الإنجليزية يختلف الوضع، فخلفها يقف الكاتب العراقي صموئيل شمعون وزوجته السيدة الإنجليزية مارجريت أوبانك، مؤمنين تماماً بأهمية المشروع وأهليته للاستمرار تحت أي ظرف، خصوصاً في هذه الفترة من الزمن، حيث يجب أن يصل صوت العقل العربي الواعي للجميع. في هذه الأيام، تحتفل «بانيبال» بمضي تسعة عشر عاماً على إنشائها، ويبدو صموئيل ومارجريت في قمة السعادة لكأنهما يتأملان ابنتهما الشابة التي أصبحت جميلة ومستقلة وذات رأي يفخران به. «بانيبال» قدمت على مدى سنين أسماء عربية عديدة إلى القارئ باللغة الإنجليزية، لم يخلُ الأمر من «مطبات» كثيرة على طول الطريق، لكنها في النهاية صمدت ولا تزال متحدية الواقع القائل إن عهد المجلات الثقافية قد ولّى وأن الأدب لا قارئ له. «بانيبال» تقف اليوم شاهدة على أن الحلم بالمشاريع الأدبية ليس ضرباً من خيال ورومانسية شاعرية في عالم لا يؤمن سوى بالأرقام وصوت المال والقوة، بل إن الإيمان بعظمة الأدب، ودوره الريادي في عملية التنوير الحضارية، ذلك الإيمان العميق جداً حدّ الإصرار على الاستمرار يمكن في النهاية أن ينتج مشروعاً متكاملاً مؤثراً، وذا صوت خاص له صدى في أرجاء العالم. قد تكون «بانيبال» الآن هي المجلة الأدبية الوحيدة المكرسة تماماً لترجمة الأدب العربي للقارئ بالإنجليزية، ولو لم تقدم أي شيء غير ذلك، فهذا إنجاز تستحق عليه كل تكريم وإشادة. الإيمان بجدوى الأدب في جَسْر الهوّات الكثيرة بين أجزاء العالم المتشرذم تحت وطأة العنصريات والطائفية، يحتاج لبئر عميقة من الشغف. الشغف يولّد الإيمان، والإيمان وقود الإصرار، وفي أتون الشغف والإيمان والإصرار، أبصرت «بانيبال» النور، ولا تزال على العهد خدمة للأدب العربي والكاتب العربي لكي تقول للعالم إن لدى العربي الكثير مما يستحق أن يُسمع حول الحرية والمحبة والسلام والحياة.