دعاني صديق لتمضية وقت ظريف، في مكان ظريف، مع أناس ظرفاء، فاعتذرت منه، لأنني منهمك بقراءة رواية ألبيرتو مورافيا «السأم». يتابع الأديب الإيطالي رحلة بطله الرسام الشاب دينو للخروج من حياة مكبِلة، فيكتشف معه كنه السأم وجوهره، ويجد أن العلاج الوحيد لإنقاذه مما هو فيه سيكون بيد محبوبته سيسيليا. الحب ليس طريقا أكيدا للخروج من السأم. وهو ـ كما جاء على لسان دينو ـ ليس عكس التسلية. لذلك يقول لسيسيليا: «إذا تزوجتك، فلكي تسأميني، لكي لا أتألم بعد، لكي لا أحبك بعد..». يقولون السأم، مثل القلق، مرض عصري. لكن من الواضح أنه سبق الثورة الرقمية بأكثر من قرن، فها هو صاحب «أزهار الشر» الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821 ـ 1867) يكتب «سأم باريس». نصوص نثرية يستخلص فيها من عاصمة الأنوار والمسرات المعلنة والمستورة، مفسدات المتع. وتوسع شعراء وكتّاب غربيون في تعرية السأم أو تعرية أنفسهم السؤومة، فيقول شوبنهاور إن الألم والسأم هما عدوا البشرية، ويعتبر برتراند راسل إن نصف خطايا البشرية سببها الخوف من السأم، وهو ما يقوله أناتول فرانس بكلمات أخرى، وترى ماري رينو إن السأم هزيمة فكرية، أما الفيلسوف كيركغارد فله رأي في الخلق، يصعب نقله. والمؤكد أن لغتنا العربية، ومعاجمها، أفردت مساحة محترمة لشرح أحوال السأم ومعانيه في باب السين. وجمع لسان العرب تصريفات السأم، ومنها: سئم الشيء، وسئم منه، أسأم سأما، وسأمة وسآما وسآمة، ورجل سؤوم، وقد أسأمه. وفي الكتاب العزيز: «يسبّحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون». وفي الحديث «إن الله لا يسأم حتى تسأموا». ويبقى حكيم شعراء الجاهلية زهير بن أبي سلمي، أشهر الذين ران على صدورهم ثقل السنين فأسأمته: سئمت تكاليف الحياة ومــــن يعش ثمانين حــــولا، لا أبا لك، يسأم وفي حديث أم زرع، تقول: «زوجي كليل تهامة لا قرّ ولا سآمة»، أي أنه طلق معتدل في خلّوه من أنواع الأذى بالحر والبرد والملل... لكن الأديب اللبناني مارون عبود (1886 ـ 1902)، يجد في السأم أبعادا حضارية، أو قل سياسية، فيقول: «إذا ملّ الشرق غرّب، وإذا سئم الغرب شرّق». تنبهنا جملة عبود إلى أن السأم له صنوان آخران، هما الملل والضجر. مفردتان لهما في معاجم اللغة، ما للسأم من تصاريف وتفاسير. ويبدو أن شعراء الحداثة العربية كانوا منحازين إلى المفردة الأخيرة في التفريج عن اصطراعات نفوسهم. فالسأم مفردة باهتة، بلا إيقاع. ومفردة الملل، تظهر وكأنها عبارة طبية علمية، أو على الأقل هذا ما توحي به الدراسات والأبحاث التي تجرى على الجملة العصبية للناس، ومنها ما خلصت إليه دراسة جامعية بريطانية من أن المصاب بالملل يكون أكثر عرضة للموت بنسبة الضعف. لكن فيروز تبقى متفائلة أكثر من غيرها، فتقول بكلمات زياد الرحباني: «إيه فيه أمل، فجأة بيطلع من ملل». إغواءات الضجر شعرية بامتياز. فهي بتركيبها الحروفي مموسقة، وإيحاءاتها مفتوحة على الحداثة وما بعد، ما بعد الحداثة. أو هكذا يرى الشعراء، فنقرأ لواحد «حب يشبه الضجر». ويقول آخر: «أحيل ضجري إلى ناي حالم يربك صحو القطيع»، ويشكو آخر من «أمسية بللها الضجر»، ويستغيث شاعر: «أيها الضجر أمهلني». تلك تأوهات لم تعد مجدية، في ظل الحال العام للسأم الحال فوق رؤوسنا، فقد دحرج بعض العرب عنه الهمزة وحقنوه بما استطاعوا من الكيماوي... adelk58@hotmail.com