أحياناً الكتّاب يمشون ويتعثرون بمواضيع في طريقهم، أحياناً يجبرون أن يكونوا شهود غير زور على حالات إنسانية، مثلما انتشلني ذات مرة زوجان في خريف عمرهما، كانا يجاوراني في احتلال مكان قصيّ مطل على المتوسط، فلم أقدر إلا أن أخط ما كانا فيه من حالات عتاب إنساني، وكيف تفرقا، كل واحد في مدينة نتيجة العصاب اليومي، ومشكلات الحياة، وتمترس كل واحد منهما خلف قناعاته، حتى وصلا لطريق مسدود، كانا على تلك الطاولة كصديقين يبثان ندمهما، ويطرحان أموراً صغيرة كانت تعكر ذاك الوقت، وتشكل ضغطاً عليهما، هما اليوم أكثر هدوءاً، وأقل تشنجاً، الزوجة تعترف بتلك الأخطاء، وتلك المناكفات التي جعلته يهجرها إلى فرنسا، بعدما ترك لها بيت الزوجية وحديقته التي طالما اشتركا في العناية بها، الزوجة تبكي على فطورهما الصباحي فيها، وجلسات قهوة المساء، الزوج يلقي بكل ثقل تلك الأخطاء عليها، الزوجة تبكي وتقول: لا تزدني شجناً، ولا تجعلني أنشج بدمعي، فأنا الآن كبيرة، وصحتي لا تسمح، الزوج: اتركيني أكمل حديثي، ولا تقاطعيني كعادتك، الزوجة: ايه يا عيني أكمل، الزوج يتحدث بشكل عملي، وعقلي في تأمين ضرورياتها، الزوجة تتحدث بعاطفة: أريدك أنت، وأريد حضورك في يومي، لقد كبرت، الزوج: أنت الآن تعيشين مع أولادك، وأنا أعيش وحدي، ومع التي قبلت أن تسكن معي بأشياء مشتركة بيننا، وبيني وبينك بحر أزرق طويل، الزوجة: الأولاد كبروا، وما عدت أراهم إلا حينما يصحون صباحاً، وحين يعودون مساء، وأنا أغالب نومي المتقطع، الزوج: لا فائدة من الرجوع، فالعمر لا يسمح بعودة تلك المشاحنات، وإذا انقضت حياتي قبلك، هناك راتبي التقاعدي سيعيشك بعدي، الزوجة: إن شاء الله قبلك، الزوج: يا صفية، بلا عواطف، الزمن ليس في مصلحتنا، لقد تجاوزنا الستين، وما بقي إلا سنوات الخريف، الزوجة تسحب زوجها إلى ذكريات وتفاصيل في بيتهما القديم، سجادة ثمينة على الجدار، ألبوم صور، رحلة لإيطاليا، وأشياء عزيزة تحتفظ بها في صندوق خشبي اشترياه من أفريقيا، الزوج: هذه أشياء جميلة، ما دام حافظت عليها، لكنها لا تعيدنا لبعض، هناك أمور كبيرة، وكلمات قاسية فرضت عليّ الرحيل، وسمعتها منك، الزوجة: أنا ما قلت تلك الكلمات، وإذا قلتها أنا الآن نسيت، الزوج: لكني لم أنس، لقد رافقتني طوال سنوات الافتراق، الزوجة: شو قاسي بعدك. افترقا وتركا خلفهما صوتهما النادم، ورنّة ثقل خطواتهما، وضجة في الرأس أبكتني من الداخل!