رؤى
ورأيتُ الشقيقين يتناحران وأمهما تبكي وأباهما غارقاً في الصبر وبيتهما خراباً. ورأيت من البعيد سماسرة يضحكون على خصامهما في مراهنات الحرب، وعلى الطاولة خرائط لأوطان ممزقة بيد أبنائها. ورأيتُ فتيةً يغرّرُ بهم بكلمات عن الحق والحقيقة ويساقون كالنعاج إلى مذابح الباطل ويموتون هناك عبثا، وجلادين محروسين بدجالين، ومنابر منصوبة لإذكاء الفتن، ومذيعاً أكل الكذب نصف لسانه ولا يزال يرغي، وأقلاماً تحولت إلى سيوف، وأخرى تحولت إلى ممحاة. وفي كل الصباح، يخرجُ المجرمون علناً في الشوارع لسبي النساء ثم يتسامرون في الليل ملثمين ومطمئنين في سرك الظلام. ورأيتُ الملايين الشريدة يمشون في قوافل المتاهة منحنية رؤوسهم، ملفوحين في البرد بلا مأوى وقد هربوا من دخان الحرب وروائحَ بارودها السوداء. وسمعتُ استغاثات ثكلى كن في عزٍ وبناتهن يسبحن في حرير. ورأيتُ كهولا زرعوا الحكمة في الأرض سنين وعمروها بالمحبة وسقوا أشجارها بعرق الشقاء والعمل، لكن الدخلاء داسوا وردها بأحذيتهم الغليظة، وصنعوا من أغصانها رماحاً يطعنون بها في نشيد السلام. ورأيتُ الكتب تُحرق ليدفأ بنارها الجهلة، ونقوش التاريخ تُمسح من جدار المستقبل، والرايات البيض تُنكّس من فوق القمم وترفعُ مكانها أعلام قتلٍ سوداء. وكان السؤال يكبر عن سر ولادة الفوضى، ولماذا تستعر النار في النفوس ويغلي حقدها رغم الرغد. أيكون كل هذا بسبب فكرة ضد فكرة، أم أنه جشع المال يتناحر أصحابه على بقعة الشطرنج وتكون الضحية دائما الأبرياء. أم هي لعبة الزمان حين يضجر من رتابة التكرار وتصير أفواه البشر، أفواه ببغاوات. وربما هي نتيجة ما كان المتحجرون يوارونه عن انفسهم ويقنعون العقل بما لا يقبله الخيال. أو أنها ساعة الحقيقة حين يُدرك الغافل أن زمانه مرَ سريعاً، وأن قطار رحلته متوقفٌ وخربٌ وبلا سكة أو طريق. وأن الآخرين سبقوه منذ ألف عام إلى النور. ولذلك يلجأ للظلام، ويبحث عن خلاصه في بعث جهله، وتكون النار لسانه في الحوار، والقتل طريقته في الإقناع، والسبي انتقامه من عدالة الميزان.
ورأيتُ الضواري والوحوش تُطل مكفهرّة القلب من جحور الكراهية. تعوي بكلمات الشر، وتلبي نداء الموت قفزاً في حرائق الخسران. لا تبالي لو احترقت الأوطان أو تهدمت أسس ارتقائها في المجد. ورأيتهم يرقصون كلما ثارت زوابع الرماد تحت أرجلهم، ينحرون الورد، ويأكلون جمرة الغيّ على موائد الشيطان. وهؤلاء لا تقنعهم الكلمة حتى لو نطق بها لقمان، ولا يقبلون بالمنطق حتى لو بُعث بينهم أرسطو، ويرون عدوهم الأول سقراط، والشعراء مجرد بشر زائدين، والسكين هي القلم الوحيد. ولا يفيد مع هؤلاء سوى أن تُدكّ عرائشهم، وأن يساقوا للجحور والأقبية، وأن يطردوا من خانة البشر. ورأيتُ أنهم إلى زوال، وأن حمامات السلم تعود إلى أعشاشها في سماء الحرية والعدالة والصداقة. وأن ليلهم الذي يحلمون بأن يطول، قصير قصير.
ورأيتُ الفجر تقدم ساعة
والبحرُ غنى لقدوم المراكب
والرمل مغسولاً ناعماً
والحب أغنية المصير