لم يبتعد مسمّو الشاعر العراقي المهاجر غريب إسكندر كثيراً عن دلالة التسمية أو عن منحه ذلك النصيب المفترض من اسمه احتكاماً للمقولة الشعبية المتداولة. كانوا يقاربون المستقبل ويخترقون المجهول، ملصقين به الغربة والغرابة.. فها هو يوسع خطاه تتبعه قصيدته في مهاجر يمطره فضاؤها اغتراباً، ويقابلها بقصائد تمطر أحزاناً. لقد غدا الاسم المعتلي أعماله عتبة نصية وموجهاً لقراءة قصائده حيث يكتنز المحتوى بما يعزز وصف الغريب للشاعر. لكن الحزن والاغتراب والغربة ليست أوصافاً تشجع عليها رومانسية مغلفة بالحداثة كما في بعض النصوص المهاجرة، بل هي سمة يشاركه فيها جيله في الألفية الثالثة. ما كان الخروج بالنسبة لهم - كما شخّصنا في الكلام على شعر دنيا ميخائيل - ابتعاداً جغرافياً يولد حنيناً جارفاً ونواحاً، وغنائيات صارخة الإيقاع، ومناوشات سياسية ومواقف آنية. خرجوا وفي أفئدتهم عراق آخر سوف يتسرب إلى ذاكرتهم ومخيلتهم، ويحتل خطابهم الشعري مترجماً في نصوص متقدمة فنياً بالاعتماد على شكل قصيدة النثر، و في الأدوات الشعرية التي تستحضر ذلك العراق المفارق بغناه الحضاري وأدبياته وأساطيره وأمكنته؛ ليكون وجوده في القصيدة ترميزاً لضرورته وقوة حضوره.. ليس من مؤشر خارج المعاناة المحيطة بالشاعر أو حياته براهنها. لكنه من أجل تجسيمها في بنى نصية يلقي في مصهرها شظايا من ذلك التراث الغني الذي أشارت إليه الكلمة بالإنجليزية في ختام عمله (محفة الوهم 2009) وصار ملهمَهُ بجانب الشعر العالمي الذي يبدو فيه حضور الشاعر البرتغالي فرناندو بيساوا واضحاً عبر المقتطف الافتتاحي والقصيدة المكرسة له في الديوان.. بينما يمكن أن نعدَّ عمله (أفعى كَلكَامش) تناصاً ثرياً ومعمقاً مع الملحمة الخالدة ودلالات السرد فيها. وقد تماهت نصوص قصيدته الطويلة أفعى كلكامش مع العمل القديم، لكنها تسحب الدلالة لتسقطها على الحاضر: “كان مثله/ مثل كلكامش/يستحم بالشمس/يشرب دمعه بكأس/لكنه/ لم يرَ الأرز/ لم يرَ أي شيء/ رأى كثبان الفجيعة/ رأى الغياب/ في فتنته الآسرة”. و تناص المفارقة واضح، فإذا كان كلكامش هو الذي رأى كل شيء، فما تشهده عينا الشاعر تجعله لا يرى شيئاً: “أنا الأعمى/ لم أرَ كل شيء/ رأيت فقط الألوان التي تشير إلى الألم”.. والأفعى نفسها ماتت بعد أن سرقت عشبة الخلود ولم تعد تكترث بشيء وسط هذا الخراب. كشأن مجايليه يهتم غريب إسكندر بالهندسة النصية، فيصمم أبنية أعماله بشكل متواليات، فثمة كتاب الدمع وكتاب النسيان وكتاب الصمت، و برغم تكرار التسمية ووجودها كتقنية متداولة تشير إلى صفحات لها ترابطها البنائي. وفي محفة الوهم يتصدر الحرف (عن) عناوين القصائد باستثناء قصيدة الديوان الرئيسية محفة الوهم، فتتداعى الوقفات عن الموت وعن العزلة وعن الأغنية وعن المنفى وغيرها. وفي حوار دال يجيب الشاعر على هواجسنا: “- هل هي وحشة أن تكون غريباً؟ - لا/ لكن الوطن في عتمته الأخيرة/ رأيته يزحف /صوب قبره الأخير”.