يؤكد أصحاب القلوب «التلقائية» الطيبة أن الإنسان جُبل أساسا على الخير. كذلك يشير محللو (أو مفتو) العنف والموت ونجاحهم في تطبيق نظرياتهم إلى أن الإنسان يمكن أن يتحوّل بالكامل إلى كيان انفعالي خالص أكثر ممّا يمكن لعقل أن يتصوره. لكن البيئات التي يمكن أن يستغلها مثل هؤلاء كمنابع للأزمة الراهنة ومصادر لخروج الكثير من الملتحقين بالتنظيمات الانتحارية، قد تكون كثيرة أما أبرزها: 1- مجموعات الفتية في المجتمعات المُعدمة والفقيرة، التي يمكن الوصول إليها بسهولة من قبل المتطرفين والأجهزة الشريرة المعادية للتفكير السوي. إنها مجتمعات تكون صور القتلى والشهداء الملونة الملصقة على جدران أزقتها «أجمل» ما فيها! 2- المدن والمناطق التي ينشط فيها إعلام العاطفة و«الإيثار»، حيث تختلط بشكل عشوائي مفاهيم الحرمان مع البطولة وعمل الخير والمعتقد الطائفي أو الديني. 3- الثقافات المحلية التي تختلط فيها مفاهيم الالتزام (مع الفقه والخلافة والدولة)، وتبرز ليس كاتجاه إيماني واع بقدر ما تكون تعبيراً عن هروب من واقع يعجز عن استيعاب حاجة الشباب للتغيير والتطور وتلبية مستجدات العصر. ويمكن التعبير عن هذه المنابع نفسها بأشكال أخرى كالتالي: 1- إن قابلية الفتية والشباب أو ميلهم نحو أشد أشكال العنف (الذبح وتحليل التعذيب) والتغيير بالسيف، تخفي إحباطاً وكبتاً جماعياً أو ثأراً من المجتمع قبل أن تكون دليلا على التزام ديني حقيقي. 2- هذه القابلية تكشف عن هوة سحيقة في التواصل مع مفاهيم المجتمع في مفاهيم مفصلية رئيسة كثيرة مثل الدولة والمواطنة والحوار والتعايش مع المختلف. 3- إن المراقبة الأمنية والاجتماعية، مهما كانت قوية ومتقنة، تبقى عاجزة عن التماس جوهر المشكلة وعن أداء أي سياسية وقائية وتشير تقارير إلى الانكشاف المفاجئ لميول انتحارية لدى فتية غير ملتزمين ومنهم من لم تطأ قدمه عتبة مسجد، بما في ذلك أحدث أساليب الاضطهاد والإذلال في السجون والمعتقلات. 4- انسداد أفق التغيير الطبيعي السلمي المواكب لحاجات وأعباء العصر، وهيمنة ثقافة الإحباط وضيق تكافؤ الفرص وانعدام المساواة، بين الفئات والطبقات وفي مختلف المستويات، الأمر الذي يجعل اللجوء «للسيف» خيارا أبرز، بما في ذلك الموت الإرادي. 5- أيا كان المحرّض والمنظم والمُستغل، فإن الميول الانتحارية لا تظهر بهذا الشكل الواسع لدى شبابنا لولا شعور دفين بحرمان ثقافي-روحي-عاطفي، أو شعور بتهميش واسع في مجتمعات يحكمها فساد مستشري على درجة عالية من البشاعة لا يمكن أن تغطيها مظاهر وديكورات من القصور الفارهة والتعسف في الرخاء والاستهلاك. وتجاه هذا الكم من الاحتمالات والبيئات المتوافرة في الكثير من دولنا ومناطقنا، يستطيع أي محرض اصطياد واستغلال مئات الشباب المحبط واليائس، وأحيانا عبر تسجيل فيديو أو كاسيت واحد. وأمراض هذه البيئات نفسها تشير أيضاً إلى المسؤولين الحقيقيين عن الأزمات الراهنة في المنطقة، ومنها أيضاً يمكن بسهولة استنتاج واستخراج الحلول، و«تجفيف» هذه المنابع.