ما بينك وأبناؤك فجوة بسعة العمر الذي أحرقته. ما بينك وبينهم كما هي المسافة بين ضفتي المحيط.
لو استدعيت الذاكرة، وجلست تحصي الصور والمشاهد التي مررت بها، ستجد أنك تعيش غربة الزمان.
الزمان أخذ منك الكثير، وأعطاك الكثير، وأنت ما بين الأخذ والعطاء مثل حركة البندول، تذهب وتجيء، وكلما تأملت وجوه صغارك شعرت بالغربة تقترب منك، وتفتح نافذة واسعة، تجعلك في خضم الفكرة البدائية التي تقول من أنا؟ وأنت ليس إلا فكرة في قلب الطبيعة، أنت بذرة كبرت، ثم وقعت على الأرض، فجاءتها الريح وقذفتها إلى مكان بعيد، ولما حاولت العودة، وجدت نفسك محاطاً بالأسئلة والجواب أنك من زمن، لم تكن فيه أسئلتك بحجم ما ينتابك اليوم من علامات استفهام.
الصغار الذين يحومون من حولك، تراهم مثل فقاعات مائية، أو رغوة صابون، تنتفخ ثم تنطفئ، وأنت ما زلت تتأمل الوجوه، وتقرأ الملامح، وتقول في سرك، يا ترى، لماذا هم يشبهونك في كل شيء، ما عدا الفكرة؟ ما يفكرون فيه اختلف بمقدار مائة وثمانين درجة عما تفكر فيه أنت.
هم وقعوا في مأزق الفكرة المتدحرجة مثل كرة النار، وأنت ما زلت عند النقطة الأولى، أنت في الماضي، وهم في الحاضر، وفي بعض المستقبل. أنت ممتلئ برائحة الرمل، وحشرجات الأزقة، وخشخشة جدران الجريد.
أنت ما زلت رغم كل الانفجارات الاجتماعية والاقتصادية، والثقافية التي اقتحمتك، ما زلت تجلس على الحصير، هكذا تتخيل، وهكذا يعتريك الشوق إلى رحلة ربما لم تكتمل لأسباب دنيوية مختلفة. بينما الصغار، يبدون لك مثل طيور حلقت كثيراً في السماء، واقتطفت من غيمتها، قطرات المطر فتغيرت ملامحهم، وتبدلت أحوالهم، واختلفت عوالمهم، وجاؤوا إليك من ذلك العالم محملين بأفكار لا تتلاءم مع أفكارك، وأنت تحاول أن تجمع شتاتك، وتقتعد أريكة التحدي وتطالبهم بأن يكونوا كما أنت تكون، وذلك هو المستحيل. لا يمكن أن يجتمع الماضي والحاضر في زمن واحد، ولا يمكن أن تختزل الأزمان، لتصبح لحظة راهنة تجتمع فيها الأضداد.
تحاول أن تكون قاضياً، ووصياً على أفكار الصغار، ولكنك تكتشف أنك قاض فاشل لم يدرس القضية، كما هي في تفاصيلها، ومحتواها، وأسبابها، أنك فقط تحجم عن فيض التغيرات، وتتمسك بصورة الزمن كما تتذكره وكما يتجسد أمامك، وتنسى أنك قادم من منطقة كانت الأزقة فيها حالكة السواد، واليوم، لو وقعت من جيبك إبرة، سوف تكشفها الأضواء المبهرة في كل زاوية، وكل ناصية.
أنت قادم من الظلام، وهم يتربعون على خاصرة المصابيح الزاهية. أنت تفكر أنك امتلكت زمام المعرفة في الوجود، ولذلك تنهي وتأمر، ولما تصد وترد، تشعر بالقنوط، فيكفهر وجهك غضباً، لأنك لم تلق الإذعان لمن ظننت أنك السيد في مجلسهم.
تصاب بالإحباط فقط لأنك فقدت مملكتك التي ظننت أنها أزلية لا زوال لسلطانها. تشعر بحالة من الاكتئاب السوداوي لمجرد أن الخدعة الصورية لم تكتمل حلقتها، وأنك أصبحت الطرف الأضعف.