عطلة طه حسين
هأنذا أقضي إجازتي الصيفية على الساحل الشمالي. قررت أن أفرغ رأسي من كل شيء، وأبتعد عن كل ما يثير القلق والتوتر، وأن أتبع خطة طه حسين الذي كان يتخفف من كل شيء، مؤكداً لنفسه ولمن حوله، أن أيام الصيف للراحة والاستجمام. وأذكر أن عنوان أحد كتبه، كان "من هزل الصيف إلى جد الشتاء". فقد كان الرجل ينتظر مع زوجته الفرنسية سوزان أشهر العطلة الصيفية، وينطلق بقافلة العائلة ويعبر البحر المتوسط بالسفينة إلى أحد الموانئ الإيطالية أو الفرنسية. وهناك تبدأ العطلة بلهو الطفلين، والأسرة كلها تستمتع بجمال الريف الفرنسى أو الإيطالي؛ فلا قراءة جادة أو إعداد أبحاث، وإنما قراءة الجرائد والمجلات، أو بعض الأعمال الإبداعية التي تثري الروح. ولذلك لم يكن صيف طه حسين يخلو من المتعة التي كانت توفرها زوجه التي كانت تقرأ له القصص والمسرحيات التي يكتب عنها، وتنشرها جريدة السياسة كل يوم أحد.
وعندما تيسرت أحوال طه حسين المالية، أخذ يستعين بمن يتفرغ له قراءة وإملاء. ومن عجب أن هذا الرجل الذي كان يعرف التمييز بين هزل الصيف وجد الشتاء كان يصطحب معه في الصيف ما هو أقرب إلى الجد. وكان ذلك في إحدى رحلاته الصيفية التي طلب فيها من مساعده أن يحمل معه ديوان المتنبي وأحد شروحه المعتمد. وفي المصيف، فرغ تماماً للديوان الذي أقام الدنيا، وشغل الناس، إلى أن أقبلت ذكراه الألفية التي احتفت بها الأوساط الأدبية؛ فأصدر بلاشير الفرنسي كتابه عنه، وكذلك محمد عبدالوهاب عزام، فضلاً عن محمود شاكر الذي تولت المقطم أو المقتطف نشر كتابه عن المتنبي. وحمّل طه حسين مساعده هذه الكتب إلى جانب الديوان. ويبدو أنه لم يفعل شيئاً في هذا الصيف سوى قراءة ديوان المتنبي، وما صدر عنه من كتب ثلاثة. وكانت النتيجة كتاب "مع المتنبي" الذي شغل الدنيا والناس عند صدوره، وذلك بسبب الطبيعة المشاكسة التي ينطوى عليها طه حسين، وبسبب إعلانه أنه لا يكن حباً للمتنبي الذي كان يراه صغيراً بالقياس إلى أبي العلاء المعري الذي لم يكن أحد من الشعراء القدامى يصل إلى مكانته في قلب طه حسين.
وهكذا، قلب طه حسين هزل الصيف إلى جد خالص. وهكذا كانت حياة الرجل الذي اختار أصعب الطرق وأكثرها مشقة في الحياة؛ فلم يعرف الحكمة من المأثور: أجموا النفس ببعض الباطل حتى تقوى على الحق. وأغلب الظن أنه استبدل بهذا المأثور هزله الساخر في تعرية خصومه والهجوم على أعدائه. وكأنه كان الصورة المعاصرة من الجاحظ الذي حفظنا صغاراً سخريته من محمد بن عبد الوهاب. وهى سخرية لا أعرف محاكاتها رغم أني قررت التفرغ لهزل الصيف الذي لم أعرفه في جد الشتاء المنصرم. ولكنني لم أفلح، فحتى هزل الصيف ضاع، وانقلب إلى جد خالص بسبب المحنة التي تمر بها مصر.