في التاسع والعشرين من شهر أغسطس، من عام 1987، صعدت روح فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، بعد أن أصابته رصاصة غير طائشة، عرفت طريقها جيداً، كما كان يعرف ناجي طريقه بامتياز، ومع سقوطه، سقطت مرحلة سياسية، وخُلّدت مرحلة فنية ووطنية، لا تزال حتى يومنا هذا، ورغم مرور أكثر من عقدين من الزمان، راسخة وموحية ومعبرة، وكأن ريشة ناجي العلي لا تزال ترسم، وعيناه ترصدان كل التحولات، ولا تزال تعليقات صوره صالحة تماما للمشهد السياسي الفلسطيني والوطني العربي، إنه الفن الذي يقرأ حاضره وعينه على مستقبله، والفنان الذي يرى ما بعد المشهد. كان ناجي حاداً كنصل سيف بتار، وجريئاً كعاصفة، يقض مضجع كل الذين كانوا يحاولون مصادرة حلمه، وقضم أرضه، والتنازل عن قريته، لم يهادن أحداً، ولم يتملّق لأحد، ولهذا، أخذته المنافي إلى أزقتها ودهاليزها، لبنان، الكويت، لندن وغيرها، في رأسه طنين لا ينتهي، وفي روحه أنين دائم، وريشته على الورقة كيد على الزناد، لكن الرصاصة كانت أقوى من جسده النحيل الذي كان يهتز لخبر في جريدة، فكيف سيقاوم رصاصة تخترق قلبه أو رأسه. لم يكن ناجي العلي رساماً عادياً، كان مدرسة فرضت نهجاً خاصاً، ومفردات متميزة في فن الكاريكاتير، وعلى الرغم من أن هذا الفن لا يحتمل الكلام كثيرا، إلا أن ناجي كان يكتب منهمراً على رسوماته، يكسر صمت الخطوط والأشكال، ويبعث الحياة في شخوصه، حنظلة، وفاطمة، واللاجئ، وكل الرموز التي تميز في تصويرها. وناجي كان مثقفاً كبيراً، وقارئاً جيداً للتاريخ، ومستشرفاً للمستقبل، هذا هو دور المثقف المستنير الواعي المدرك المهموم والمعجون بقضيته، فناجي لم يكن يقصد إشاعة الضحك بقدر ما كان يقصد إشاعة الألم، وكان يدرك أنه كلما رسم لوحة جديدة، كان يحفر عميقاً في الجرح الفلسطيني والعربي، وفلسطين لم تكن بالنسبة لناجي دبكة وثوباً فلكلورياً وأواني تراثية، وكوفية للزينة، فلسطين كانت أكبر من كل هذه المظاهر، هكذا كان يصرخ، حتى بات يشكل خطراً على المرحلة برمتها. عاش ناجي غريباً ومات غريباً، لكن حنظلة، ذاك الطفل الذي يدير ظهره دائما للناس لم يمت، لا يزال يتحرك في المخيمات الفلسطينية، والقرى والمدن والحجارة الفلسطينية، يدير ظهره لكل ما يحدث، فهو لا يعنيه سوى أن يعود إلى أرضه، وأعتقد جازما، أنه لو تحققت العودة وكان ناجي لا يزال حياً، لجعل حنظلة يدير وجهه للناس، ولا أدري أي ضحكة سيرسمها ناجي على ملامح هذا الطفل، أو ربما كان وضع صورته هو، ناجي مبتسماً أو ضاحكاَ أو دامع العينين، ألم يكن حنظلة يعكس موقف ناجي من الأحداث! وعلى الرغم من مرور أكثر من عقدين على غياب ناجي، إلا أنه لا يزال في ذاكرة الناس بدمه الطازج، وبحنظلة الساخر الشقي، إنه الصدق الذي يمنح الفنان الخلود. akhattib@yahoo.com