بينما لا ينتهي الجدل في مناطق كثيرة من العالم حول تفاصيل وسبل حماية وتعزيز الحريات والخصوصية، قانونياً وأخلاقياً، وتتكثف في هذه الأثناء محاولات كثير من الغيورين على التقدم الحضري للبشرية من أجل تحقيق المزيد من المكاسب للأفراد والمؤسسات والمنظمات المعنية بحريّة التعبير، بينما ذلك، ينشغل بعض كتابنا العرب، وبينهم أسماءٌ بارزة، بمحاولة تبرير عمليات الذبح عبر توظيف ممارسات وحشية من أصل غربي واستعماري، أو القول بعدم جواز التفريق بين طرق القتل، طالما أن الموت واحد. وكأن بعضهم يقول و«يُفتي» ولو عن غير قصد، بنوع من التحليل لما شهدناه مؤخراً من أعمال بربرية، تعيد البشرية قروناً كثيرة إلى الوراء. لم أر أي إنجاز، لا فكري ولا بحثي، في تنظير البعض للرؤوس المقطوعة في فترات متفاوتة من تاريخ بعض الدول والأمم الغربية. مدرسو التاريخ وطلابه يدركون ذلك، فهم يدرسوّن أو يدرسون مسارات الثورة الفرنسية وويلاتها التي وقعت، مثلا، في الفترة التي انتشرت فيها عمليات قطع الرؤوس في باريس بوساطة المقصلة الشهيرة، تماماً كما يدرسون إنجازات وخواتيم الثورة الفرنسية التي أنارت في نهاية المطاف الإنسانية بحزمة من المبادئ والحقوق التي تنص عليها معظم دساتير العالم اليوم. لم يُسقط أحد قطاعات المقصلة، ذلك الجزء الأسود من أفضل الثورات في التاريخ المعاصر، ليس حرصاً على الحقيقة فقط، بل كجزء أساسي وضروري لتعلم التاريخ، بخيره وشرّه، بمساراته وتفاصيله وآلامه، وآليات عملية النضوج المستمر للبشرية، رغم الوجود الدائم لمن يريد البقاء أسير عقليات الماضي والانتقام والثأر والشماتة، ولو كان ذلك على حساب التقدم وفرص وحق الأجيال القادمة بحياة أكثر مدنية وحضرية وأخلاقية. إن في التاريخ، تاريخنا وتاريخ غيرنا، وحتى تاريخ من لم يُكتب لهم فرصة تدوين أحوالهم وثقافاتهم، ما قد يكون أبشع بكثير من قطع الرؤوس وذبح الرقاب والرجم حتى الموت. لكن من يدرك روح التطور في الثقافة الإنسانية، لا بد أن يعلم بأن من حسن طالع البشرية (المتقدمة) أنها كانت تمر دائماً بعمليات تهذيب أخلاقي وإنساني، وإنه لولا ذلك لكانت أخلاق وآداب التعامل بين الأفراد والمجموعات وطرق فض المشاكل بقيت اليوم عند تخلفها أو وحشيتها التي عُرفت بها في التاريخ السحيق. ولعل أول من يجب أن يعي هذا الدرس هم أولئك الكتاب والصحفيين الذين يغمزون اليوم من زاوية ممارسات أمم ودول (استعمارية) ضد شعوب وديانات أخرى، ويتغاضون عن أن هذه الممارسات كانت تستخدم أصلاً كتعسف إجرامي أسقط شريعة الحق بمحاكمة عادلة واستخدم في كثير من الحالات ضد المتنورين من الغرب نفسه. إن مثل هؤلاء يجب أن يدركوا أولًا أن التاريخ الذي لا يتهذب بمزيد من الأخلاق الإنسانية لا بد أنه سيرتد إلى المزيد من الممارسات الوحشية، التي قد لا توفّر أحداً، بما فيها الفئة نفسها التي ينتمون إليها من الكتاب والصحفيين العلمانيين منهم والقوميين والملتزمين جميعهم على حد سواء. د. الياس البراج | barragdr@hotmail. com