لغط، لغط كوقع حوافر مروعة، تهتك بأعصابها، وتهدر فوق جسدها كل ثانية، كل يوم، كل عام. لغط يفتك بها ويجرحها. شفرات الضجيج تجرح ثوانيها وساعاتها وأيامها وأعوامها. صخب، لغط، ضجيج يستلها من ثغر زهرة، من تكسر موجة، من عناق فكرة. قرقعة الألسن في الحناجر أبداً لا تنتهي، يومَ أن ابتدأ تشكلها الأول. كان عليها كما على جميع الأطفال حين يولدون في التو، أن تصرخ. لكنها همهمت، فرعود العويل، وجلجلة الزغاريد، اخترقت لسانها ورئتيها. حفرتها في ارتجاج المباغتة، وألقمتها الصمت. كان الضجيج أكبر من حلقها، فغصت بهِ، وراحت ترضعهُ سنواتها المقبلة حتى الوله. الضجيج يكبر ويبددها، ينقر أعصابها في كل الاتجاهات، واللغط أبداً لا ينتهي. يلفها في دوامة لا يوقفها الزمن ولا المصائب. صخب يلف بها كأذرع طاحونة توزعها في اتجاهات البيت والأرض والمدار. في الصخب الوحشي نمت مخالب الشوق للسكينة والصمت والهدوء. في اللغط الأحمق نمت زاوية صغيرة مثل رغيف جائع في مكان تجهل مكانه، وتستعجل زمنه فلا يوافيها، وتستشرف شكله فلا يتشكل إلا في قاع الروح المنفلتة أبداً من إسار اللغط والضجيج وقرقعة الألسن والتيه والتبعثر والذهول. طفلة شريدة تسفعها الصحارى، وتحدها الصحارى، وتنثرها قطرات تغوص عميقاً ثم تتحول إلى شوكة على خاصرة صبارة صابرة.
آه.. سنوات وسنوات وتضاريس الصمت تشهق في العلو، وتضيق في المساحة. وسياط الألسن واللغط والضجيج تركض في السنين، وتجلدها تحت الحرائق.. وتنثر على سقوفها ملح الصبر. زعيق مهول يرتج في أذنيها ويرتد، وينشر المسامير في ذرات أعصابها ويرجها، يهتك بسريرتها وسرائرها، ويلفها بأشلائها في متاه أبدي. أين تختبئ، أين ترسم خيمتها أو غيمتها؟ أين تحفر مغارتها أو زاويتها القصية؟ تروس الضجيج مريعة، تطوّح بها في العواصف. وهي كقطعة خشب تستغيث بشاطئ أو غصن. سنوات نما على حواشيها الانتظار، فعرّش بالصحارى. عشر وعشرون وتوق واحد بسيط مثل قطرة ماء، مثل عشبة صيف، مثل شعاع ملقى على شارع، مثل رغيف ساخن. أربعون عاماً تحلم بخيمة أو غيمة أو زاوية قصية، لا تروس الضجيج تمزقها فيها، ولا قرقعة الألسن المروعة تبعثرها في الذهول. لا تسمع فيها إلا ما يهمس الشعر، وما يبتغي الوجد، وما يوشوش الموج والغيم والشجر. وإذا ما حط نورس الفكرة على قلاع روحها ساررتَهُ واعتنقا طويلاً حتى يصيرا موجة من الشعر، تنسرح على أفق الحياة والشفاه. ما أعجبك أيتها الحياة.. أيمكن أن تكوني سخية العطاء وبخيلة التحقق إلى حد هذا الحد؟!