في مجلس عامر بأهله، جلستُ بكل فخر واعتزاز، ومن لا ينتشي في حضرة من تسمو بهم الأخلاق وتتجلى بهم آيات الجمال. سيدة المجلس تربعت على عرش المعاني والقيم، ومالت إلى اللطف، فوهبته بُعداً آخر، أما ضيوفها، فتحتار فيهم كلمات القاموس، إذ صارت لهم جذور عميقة، ترفدهم أصالة وعراقة ونزاهة واحتراماً وتقديراً، فهم أهل العلم والمعارف، وعندما يجتمع ذلك كله في مقام واحد، تتكون النهضة، وتنتشر قيم العطاء، ومفاهيم الابتكار. قالت تلك اللطيفة بابتسامة خفية: «دكتورة، خبرينا عن سالفتك ويا العنز المربوطة؟» فسردت لها ما ورد في أحد أعمدتي المنشورة، وخطرت في ذهني عبارة قرأتها للتو تقول بأن «لكل مسافر حقائب غير تلك التي يحملها، ربما أثقلها حقيبة الذكريات»، ومن تلك الذكريات تعلقي بكتاب «هاتف من الأندلس» الذي كان جزءاً من المقرر المدرسي في السنين الغابرة. فقلت: «هذا مجلسٌ راقٍ يذكرني بمجلس ولادة بنت الخليفة المستكفي التي طالما شعرت بأني من بنات عصرها وجلسائها»، فضحكت صاحبة الشأن، وقالت: هل لك في الحضور الذهني؟ فشردت أفكاري إلى تلك الرواية التي كتبها علي الجارم، والتي تتحدث عن ولع الشاعر الأندلسي ابن زيدون بالأميرة ولادة ابنة الخليفة المستكفي. ولا أُخفي عليكم فقد ذهبت إلى قرطبة ومررت في شوارعها وأزقتها بحثاً عن عبق الماضي، وذلك الحب الذي جسده نصبٌ تذكاري على شكل يدين متشابكتين، وقد كُتِبَ عليه أبيات لـ»ولادة» تقول فيها «أغارُ عليكَ من عيني ومني ومنكَ، ومن زمانكَ والمكانِ. ولو أني خَبَأتُكَ في عُيوني إلى يوم القيامة ما كفاني»، وكان من اليقين أني من ذلك العصر.للعارفين أقول، في أبيات «ولادة» يكمن سر الجمال والحياة، فهي من قال: «يا مَن غَدَوتُ بِهِ في الناسِ مُشتَهِراً... قَلبي عَلَيكَ يُقاسي الهَمَّ وَالفِكَرا...إِن غِبتَ لَم أَلقَ إِنساناً يُؤَنِّسُني... وَإِن حَضَرتَ فَكُلُّ الناسِ قَد حَضَرا». هذا هو الهاتف الذي دعاني مُحَمَلٌ ومُثقَلُ الحمِل بالذكريات، نظرة للوراء.. فضاء فسيح تكون في السماء غيوم مُلبدة أحياناً، وتارة أخرى لا ينقشع الضباب، وفي أغلب الأحيان وفي نهاية المطاف، تمر بنا سويعات الصفاء والنقاء، لنحلق بأرواحنا عالياً كلما كنا في حضرة آل نهيان، حفظكم المولى.