يسترُ الجمرُ عُريهُ بالرماد، لكن الرياح المتغيرة سرعان ما تكشف نواياه، وتدلّ الغافلين على مكمن اللسعِ فيه. والرجلُ الذي ظن يوماً أن الحقيقة يُمكن أن تُزيّف بذرّ الرماد في العيون، سيدرك أن رهانه الخسران، وأن الذي يتكئ على الهشاشة، لا بد أن يسقط عند أول منعطف. وما قيل قبلاً في دروس الحكمة والدهر، يعاد اليوم بألف صيغةٍ جديدة، والبشرُ مع ذلك لا يتّعظون. يأتي الشاعر حاملاً نصّه الجديد فتحاً في منغلقات اللغة، وسبراً لأغوار خفاياها، لكن الذين اعتادوا على اجترار التكرار، يرون في صوته الجديد خروجاً على سليقة العادة، وخدشاً لطمأنينة الإصغاء. وكل شاعر، حين يكتب القصيدة بدم يحترق، وبرأس يشتعل، عليه أن يُجابِه صدود المؤمنين بالعادي والجاهز، وأن يتلقى طعنات حراس التقليد، وقد يُباح سفك مداده في الطرقات والساحات.
الشاعر في الأصل رسول تغيير. ذلك لأن الجهل يتسرب في فراغات اللغة ويصيرُ مع الزمن نطقاً وحكمة مقلوبة ضد معناها. أيضاً، يأتي الخوف على شكل عبارات ذُل، ومعانٍ مواربة، وجملٍ تفيضُ بالخنوع، ويسكن هو الآخر في تجاويف اللغة، ليصير بداهةً على ألسن الطائعين. بينما الشاعرُ يخلخلُ اللغة بنصوصه الضاجة بالحياة، رافضاً أن يُعاد الكلام على سجيّة من صيّروه سبباً للعزوف عن فكرة الحرية، وعن الذهاب حتى الموت في دروبها الوعرة.
بين اللغة والشاعر علاقة نسبٍ ودم. وأي جرحٍ يطال أيهما، ينال كلاهما. والقصيدة، إن تعثرت في جوف قائلها، تخنقه لا محالة. ذلك لأن فعل الحرية في النص، يجب أن يكون مكتملاً في تجليه. بلا نقصٍ نتيجة جهل، وبلا ارتباكٍ نتيجة خوف، وإنما إطلاق الكلمات بكامل قوتها، وكأنها تُطلق من مدفع الوجود لتهدم أركان العدم. هكذا يتحقق للنص وجوده المطلق، ويكون الشعر الصوت والنبض الحقيقي للعالم. أما القصائد التي تراوح بين أغراض الاستجداء، ومدح العطايا، وتبجيل الندم، فان مآلها الرماد، وورقها إلى النسيان طياً بعد طيّ.
يكتبُ الشاعرُ بدمه لا بحبر الناسخين. وهو لا يمجّد إلا الحياة، منتمياً إلى سموّها في الخيال. وإلى الحلم باعتباره درباً علينا أن نشقّه في الأرض، ليكون مسعاهُ مجرى للذاهبين إلى الأمل. وفي كل ورقة يخطّ عليها الشاعر صوت قلبه، تولدُ غابة الاكتشاف، ويتحرر سربُ كلمات من أقفاصه الوهمية، ويبحرُ حراً في مطلق المدى.