حياة في قصص
إنني آسف على ولادتي..
بهذه العبارة ينهي القاص والروائي الراحل عبدالستار ناصر واحداً من أكثر كتب السيرة الثقافية صدقاً وحميمية "حياتي في قصصي/ موجز تجربتي في كتابة القصة والرواية" الصادر في عمان عام ألفين.
كتاب يجمع بين الشهادة على تجربته القصصية ونشأته في حي من أكثر أحياء بغداد القديمة فقراً، ليرينا مصادر موهبته ومؤثراتها فلا تعدو المعروف أو الشائع.. لكن أقوى ما دفع عبدالستار للكتابة هو تحديه لذلك الشظف المتعدد الكيفيات وتعويضه عن حرمانات كثيرة، وجد في القصة فسحة خيالية لاستبدالها بأحلامه البسيطة. فصارت القصة تعني حياته الحقيقية رغم فضائها المختلق وأوهامها. وقد قرأت العنوان في مناسبة نقدية سابقة بكونه تعبيراً عن مسكوت عنه مؤداه: إن حياتي غير موجودة إلا في قصصي. أو قصصي هي حياتي فلا تذهبوا بعيداً وفتشوا عني فيها.. وحين أعيش حياتي بطريقة ما؛ فذلك لأني أكتب القصص.
كان عبدالستار حين نشر الكتاب قد اختار حلاً فردياً لمحنة وطنه وخرج هارباً. أراد أن يقدم ما يعد اعتذاراً عن كتابات له مرت تحت سوط الجلاد وثمرة عام من السجن الانفرادي تسببت بها كتابته لقصة قصيرة عنوانها "سيدنا الخليفة".. الحروب التي عركت العراق واعتصرت أهله وأرضه وحضاراته يلخص عبدالستار دروسها بطريقته الساخرة المريرة في سبعة عشر! كل واحد منها يكفي لبيان المعاناة التي قذف في أتونها شعب بكتّابه وشبابه ونسائه وتوقف كل شيء. يقول عبدالستار "إن كارثة الكوارث ومحنة المحن ومجزرة المجازر هو أن نوحي بالنصر في بلد محكوم بالذل".
سيعود عبدالستار إلى تجربته الكتابية في كتاب لاحق يجمع بين النص القصصي والسيرةالذاتية هو "الحكواتي" الذي كرسه للبوح (بعشقه) للقصة القصيرة فيقول في المقدمة: "لا أعرف اليوم كيف يمكن أن تستمر حياتي بدونها" فبدونها (حياتي.. ما كانت تعني أي شيء" وأنها "أنقذتني من البلاهة والموت والفزع والجنون".
وفي كتاب لاحق "على فراش الموز" يحاول عبدالستار أن يدون مذكرات أو سيرة فلا يكتب رواية سيرة أو سيرة روائية، بل يعرض مشاهد أشبه بما يحدث في بناء القصة القصيرة وشعريتها المكثفة، وهي تعيش على قطع من سيرته الذاتية. فقال في مقدمتها: "هذه الرواية خرجت من مذكراتي التي لم أكتبها بعد"، ولكي لا يتنبه القارئ لمفارقة خروج النص من عدم أو متن لم يدون بعد يستدرك عبد الستار بالقول: إن تلك المذكرات غير المدونة "كانت تحيا في ذاكرتي وعاشت معي في كل مكان مضيت إليه"، وقد كنت أراه هكذا في حياته وهو يعيشها بأبعاد ثلاثة قال عنها: "ثلاثة أشياء جعلتني أتمسك بالحياة.. لكن الكتابة مازالت الهاجس الأول اللذيذ، ومازال السفر أعذب أحلامي، ومازلت أرى في النساء أخطر أفعالي وأعذب احتراقاتي". وهو ما تعكسه قصصه ورواياته.
هكذا فهمت رحيل عبدالستار ناصر مغترباً حين ذوى الجسد ووهنت الذاكرة وتوقفت الكتابة؛ فأرخى شراع سفينته وأوغل في المجهول.