عاصمة الثقافة
في الطريق الذي أعرفه منذ سنوات بعيدة، ولم أكن يوماً غريباً على منافذه ولا تلك الوجوه الشاحبة تغيب عن الذاكرة.. هي تذهب وتأتي أو لا تأتي.. تغيب مع المد حتى لم تعد لها ملامح، سلخها الزمن من كيانها، واندثرت على أثرها وبقيت حالة النخل تراقص الهواء الساخن، وتاهت خطوات أهل الغبراء، وتأهبت أطلال بيوت الطين وقلاع التاريخ وحياة من بقايا الحجر الجميل.. بيوت لم تكن شاهقة لكنها كانت تكفي لتلملم بقايا من حكايات صغيرة، وتنام أينما تحط خدك على تراب مخملي الملمس يشبه شلالا من الزعفران. يكفي أن الأرض تمتص دموع الأطفال حين يحاصرهم الخوف او المرض وحين يبتغون لقمة تسد رمق الجوع.. صدى صوت جبل حفيت يتردد: لا عليكم أطفال مدينة العين، لتفد عليهم السكينة وتقر أعينهم بماء الوضوء وما وهبته أفلاجها وعيونها المتدفقة نبعاً صافياً مدراراً.
في العيد اندثرت وجوه الطرقات ومضت المدينة الخلابة تبحث عن صفوة الأيام، تراقص أضواء متلألئة وخرافية وهي صاعدة لقمة الجبل.. ذاكرة برية وغربة تكسو وجه النخيل وجدلية صامتة برأس الجبل ووقار لمسجد المدينة.. مآذن ترفع صوت الآذان، تشيع المحبة وتطهر القلوب التي ولدت ملساء بيضاء نبضاتها تجسد الصحو وتصل الرحم.. قلوب تتسع للوقار، تتسع لكل شيء جميل.. مدينة مبجلة في ملامحها تلتحم وقلب الصحراء الشاسع المنفتح على الوله وإلهام الذات فلا تغمض عيونها ولا تنام، وصحو أحلامها يؤرق المساءات ويكتب لها الحضور.. أسرار النخل وشموخها وهيبة الأفلاج وامتدادها على مدار الحياة.
مدار أول: مؤلم ذاك الرحيل من خبايا البيوت الصغيرة الزاهي بألوان الوحدة باتت صديقة للوحدة يعتصرها ألم الغربة.
مدار ثان: لمدينة يكتبها التاريخ وتكتبه بماء الذهب وترصعه على جبين الجبال المكتظة بصلابة ويقين بأن المدينة تتوهج تاريخياً ولها ازدهار أكبر وأقدر على محاكاة الزمن، وتؤصل الصورة الحقيقية لمدينة متجددة ومثابرة نحو المزيد من الاكتشافات.
مدار ثالث: لمدينة ترمز لصفاء الروح أمام سندس الزهر وتموّج الأغصان ودفء المكان، تمازج برائحة العطر ما بين سناء الكلمة وسراج الحكمة. فعلى أي مدار تختص المدينة وهي حكاية للحدائق الغناء التي سطع صيتها على مر التاريخ؟
هي عاصمة للمدارات تهب الخلود لحالات التجدد ولها عنفوان تاريخي ثقافي لا يدع مجالاً للشك، بل يتسع اليقين كلما تخللتها وأنت تمر عبر نسيجها الجميل، ولا يمكن إلا أن تضع الكلمة بياناً لكل المدارات الهادفة والمتميزة.
مستحيل أن تعبر المجال الثقافي الرصين ولا تكتب لها أو عنها فهي مدينة تاريخية، بمعنى لا تحتاج أن تمنح لقباً للتاريخ أو للثقافة لم تمتلكه من مخزون ومقومات أثرية بالغة الأهمية، وهي عنوان لكل المراحل الثقافية المختلفة.. ألا يكفي ذلك النضوج الجميل؟ ألا يكفي إشراقه وتألقه ومقدرته لتصبح مدينة العين عاصمة للثقافة؟ بلى هي تستحق.