منذ أن وعى الإنسان وأدرك أن الموت مصيره المحتوم، آجلاً أم عاجلاً، الموت الذي يسقطه في هوة النسيان والفناء، تعاظم طموحه لمغالبة الفناء. ففي جميع الحضارات القديمة كانت فكرة مغالبة الفناء هي الهاجس والدافع الأول لإبداع أعظم المنجزات الحضارية التي تقوم في أساسها على مبدأ الصلابة والرسوخ والبقاء. فالمتأمل لعظمة مدينة جرش، والبتراء، وأعمدة بعلبك، وأهرامات الجيزة، وتمثال أبو الهول، على سبيل المثال، سيلاحظ أن فكرة الخلود تسيطر على النوازع العميقة لهذا التشييد العمراني الهائل الشموخ، والعصي على الفناء المطلق، الذي يهدد المادة الحية في نسيج الإنسان. كأنما الإنسان بخواص التخييل المذهلة، هذا الخيال الذي ينقل الإنسان من محدودية المادة إلى لا محدودية الامتداد، من المتناهي إلى اللامتناهي.. بهذه الخاصية التي منحها الخالق وخصته بها الطبيعة، صاغ الإنسان ويصوغ على مرّ أزمنته وعصوره حياة أخرى هي امتداد للحياة ذاتها ورسوخ فيها. لكن صيغ الاستبداد والتدمير والإبادة والاعتداء على الطبيعة تخرج على قوانين الطبيعة نفسها، والصراع من أجل البقاء الذي يحكم كائنات الطبيعة من غير الإنسان. إن مفهوم هذا الصراع في الطبيعة تحكمه ضرورة العيش الآني، وليس له بعد تخييلي ونزوع لمغالبة الفناء سعياً للخلود، كما هو عند الإنسان. إن كائنات الطبيعة تفترس لتأكل في لحظة، وهي لا تضع خطة مدبرة لما بعد تلك اللحظة. بينما يبتكر الإنسان في مسار تطوره الطويل أكثر الوسائل قدرة على التدمير لإبقاء ذاته قيد الخلود!. وإذا كانت الفنون بتفرعاتها: الموسيقا، والغناء، والرقص، والعمارة، والنحت، والرسم، والأدب بكل أجناسه، هي أنبل السبل التي ابتكرها الخيال الإنساني المبدع لمغالبة الفناء، فإن التدمير والإبادة والهيمنة والاستبداد بكل طرائقها، المادية والمثالية، هي أبشع الوسائل، وأكثرها قبحاً، وأقصرها طرقاً لا إلى فناء الجنس البشري وحده، بل فناء كل عناصر الطبيعة وكائناتها ومنجزات الإنسان وإبداعاته في كل العصور. إن النزوع إلى الخلود يصبح شوقاً عارماً للفناء والتوق إلى اللانهائي واللامحدود، يصبح جشعاً في المحدود والآني. إنه انقلاب في قيم الحياة والإنسانية قاده هذا الكائن المحدود، وكأن أحلامه باتت تحاكي محدوديته ونهائيته وقابليته للمحو والتحلل. إن صفة التحضر مقابل البدائية التي اتسمت بالبراءة في مقاصدها، لا تكتسب قيمتها وجوهرها إلا بلغة السلام. السلام وحده لغة التحضر وهو وحده السبيل للديمومة والتطور والارتقاء، وهو وحده التعبير عن أقصى درجات الإنسانية وأقصر الطرق للخلود ومغالبة الموت والفناء!