ترتقي الموسيقى بإنسانية البشر، وتسمو بهم إلى مشاعر تُقيمُ في قممٍ شاهقة وأغوارٍ سحيقة في النفس، فتجعلهم يستشعرون آدميتهم، ويلامسون أرواحهم ليحلقوا معها بحريةٍ وصفاء، هذا ما يعتريني عندما أسمع العيالة والتغرودة وشلات البدو الأولية واليامال والونة والسحبة والدان والندبة والليوا والرواح والنوبان وطرق المرواس وطبل الرأس في السمرة.. هذه هي الصور الذهنية التي رسمتها موسيقى الإمارات وفنون أدائها في قلوبنا وذاكرتنا، في أوروبا يسمع المرفة والمثقف وشيبان الطبقة الأرسطقراطية سيمفونيات كلاسيكية، أبدع في تأليفها باخ وبيتهوفن وموزارت وغيرهم، فهي تعكس رقيهم وتفرزهم صولات وجولات تلك الموسيقى عن سواهم من البشر، فيصبحون من النخبة التي تُخَلِدُ موسيقيها ومبدعيها، وتعزز دورهم في الحياة الاجتماعية.. تلك السيمفونيات الكلاسيكية عززت الموسيقى الأوروبية حتى في حلقات الهرّ توم والفأر جيري، لا سيما عندما فاجأني ابن أخي «خليفة» بسؤالٍ عميق، عندما سمع بالصدفة إحدى السمفونيات على الراديو الذي كنت أعبث به، فقال: «عموه.. خليه خليه بس ليش فيه صوت وماشي صورة لتوم آند جيري؟» هذه ثقافة الموسيقى التي يجدها أطفالنا، حتى في تلك الصور المتحركة، وها هم يفصلونها ويربطونها معاً... إذن للموسيقى طاقة كامنة لا بد من تدوينها وتوظيفها لمصلحة الوطن وثقافته وحضارته الساحرة.
بعد ذلك السؤال، تراءى أمامي زرياب ذلك الأنيق الذي علم أوروبا الإتيكيت، وأهمية جمال المنظر وآداب المأكل، بما في ذلك تناول الوجبات الثلاث وترتيب الأطباق بدءاً بالحساء، وهو من أضاف وتراً خامساً حَسن صوت العود، ثم أسس أول معهد للموسيقى في العالم في مدينة قرطبة في تيافين الأندلس؟ وزرياب هذا ابتكر أسلوب الموشح الأندلسي، وأضاف مقاماتٍ موسيقية لم يسمعها البشر من قبل، حتى ظنوا أن الجن تلقنه تلك الألحان.. زرياب هذا من جماعتنا عربي المعرفة والإبداع، سطعت شمسه على الغرب وأفَلتْ عن الشرق، فهو وموسيقاه على هامش الأخبار.
للعارفين أقول، اجتهد الآباء والأجداد حتى ولفوا موسيقى الإمارات التي نفتخر ونعتد بها، فمن يسمعها يلتمس أنها نابعة من مهد التسامح، ولا تعبر إلا عن جمال وروح المكان وتفاصيل التضاريس بأنواعها، موسيقى الغرب الغريبة قد دخلت عقول الشباب، وصاروا يهرولون وراء «كيكي وأخواتها» مهاجرين مُغَربين، وبعيداً عنا وعن زرياب، وليس لدى بعضهم منطق يفرز ويتذوق الموسيقى وقواعدها الأخلاقية والثقافية بعقلانية فـ«يقبل منها ما يقبله العقل ويرد على ما يرفضه عقله»، كما تختلف أطيافنا تختلف آراؤنا، واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.