في بداية سنواتي الجامعية ازدادت أواصر علاقتي بصديقة من إمارة الشارقة، فقمت أتردد على منزلهم الذي كان فيه جهاز تلفزيون واحد يتمركز في المكان الذي يجمع كل أفراد الأسرة، وكان لصديقتي شقيق من ذوي الاحتياجات الخاصة لم يتجاوز في تلك الفترة الثامنة من العمر، وكان له طبع غريب، إذ يصرخ بغضب بمجرد أن يقوم أحد بتغيير المحطة التلفزيونية بعيداً عن «قناة الشارقة»!، ولذا لم يكن لأفراد الأسرة مجال لرؤية قنوات أخرى إلا في ساعات نوم الصبي المحدودة جداً، ولذا بطبيعة الحال كان لهذه القناة دور أساسي في تشكيلهم الفكري. لصديقتي -التي تمتد علاقتي بها الآن لثمانية وعشرين عاماً- أحد عشر شقيقاً وشقيقة، لديهم ثقافة وطنية لم أجد لها مثيلاً في أي أسرة تعرفت عليها، ويملكون ذاكرة جمعية ثرية تربطهم ببعضهم، ويتمتعون بحس نقدي عال يجعلهم في حوار مستمر حول الإمارات وكل ما فيها، وجميعهم تقريباً في مراكز عمل مرموقة.
استهللت حديثي حول «الإعلام والهوية الوطنية» في ورقة عمل قدمتها في مؤسسة التنمية الأسرية في نوفمبر عام 2018، بهذه القصة.. ثم طلبت من الحضور -موظفات وأمهات- بأن ترفع يدها كل من تعتقد أن الإعلام يقوم بدوره في تعزيز الهوية الوطنية والانتماء؟ بالكاد تجاوز عدد من أكدن على ذلك أصابع اليد الواحدة. ثم طلبت من الحضور أن يرفع يده من يتابع لمدة تزيد عن ساعة قناة تلفزيونية محلية، ثم أتبعته بنفس الطلب من يحرص على قراءة صحيفة محلية كل يوم، وفي كلا السؤالين كان عدد من يقمن بذلك ضئيلاً جداً!
احتوت الورقة التي قدمتها على قراءة في نتائج استبيان أجراه 60 طالباً جامعياً إماراتياً أجابوا فيه على أربعة أسئلة: أولاً، (عبر عن هويتك في جملة من أربع كلمات)، ثانياً، (رتب من الأعلى إلى الأدنى الجهات التي ساهمت في تكوين رأيك حول هويتك وانتمائك: الأسرة، الإعلام، المدرسة، الأصدقاء)، ثالثاً، كم عدد الساعات التي تقضيها يومياً أمام وسائل الإعلام المحلية التالية (التلفزيون، التواصل الاجتماعي، الإذاعة، والصحف)، رابعاً، إذا كان التواصل الاجتماعي مصدراً مهماً للحصول على المعلومة حول الوطن فما السبب في رأيك؟ (المصداقية، الوفرة، السرعة).
لم تدهش النتائج حضور مؤسسة التنمية الأسرية، فسلوك أبنائهن يشبه سلوكهن، إذ يتعرض 7% فقط من الطلبة لمنصات الصحف المحلية، وأقل من 17% يتعرضون للتلفاز، بينما حظيت وسائل التواصل الاجتماعي بأغلبية أفراد العينة، ولكن ما أدهشهن، هو سبب لجوء الطلبة للتواصل الاجتماعي دون غيره في الحصول على معلومات عن دولتهم، حيث أكد 60% من الطلبة على أن وفرة المعلومات وتعدد (ما يقال حولها) هو سبب لجوئهم لهذه المنصة دون غيرها، فيما أشار 33% فقط إلى لجوئهم إليها -للحصول على معلومات حول الوطن- بسبب سرعة بثها. فيما لم تحظ (المصداقية) باهتمام أكثر من7%. وهو ما يجعلنا نستنتج أن هذه الفئة العمرية، تعير اهتماماً بالغاً بما يقال حول المعلومة وكيف يقال ذلك، بدرجة تفوق اهتمامهم بمصداقية هذه المعلومة أساساً!
وما أثار استغراب الحضور أكثر أني عرضت أمامهن ست برامج تلفزيونية (أحداث من ذاكرة الوطن/‏‏ شخصيات في مئوية زايد/‏‏ فعاليات من الذاكرة/‏‏ أصحاب الهمم/‏‏ الحكومة الذكية/‏‏ قصة من حضارة وطن) كانت تعرض في الدورة البرامجية عبر قنوات أبوظبي التلفزيونية -في تلك الفترة-، إذ لم يسمع عنها أحد تقريباً، رغم تمركزها حول قيم تعزز الهوية والانتماء، تدور حول إبراز قصص المؤسسين وجهودهم لتكوين الوطن، وإظهار ظروف الماضي لإبراز التغيرات التي حدثت في المجتمع على مختلف القطاعات، وإطلاع الجمهور على مواقف الدولة تجاه تطورات القضايا الإقليمية والدولية، وإبراز الإنجاز الوطني، وتحفيز المجتمع وأفراده على التفوق، وتعزيز الإحساس بالمسؤولية، وتعزيز روح التسامح والوسطية وإظهار الجوانب الإيجابية للتنوع الثقافي ومكافحة الأفكار الهدامة.
وعودة إلى قصة أسرة صديقتي. كان الطفل من أصحاب الهمم -الذي أصبح رجلاً الآن- سبباً غير مباشر في تعرض أفراد أسرته لقناة محلية، ليعرفوا «جبراً» ما يحدث في محيطهم. ولنا أن نتخيل لو أن ذلك الأمر كان في زمن يملك كل فرد -كما هو الحال الآن- منصته في هاتفه بين يديه، هل يا ترى سيكون لهم نفس تلك الثقافة الوطنية؟! الحديث يطول حول توجهات الناس وخياراتهم في ما يولون له وجوههم وعقولهم للحصول على معلوماتهم، وخصوصاً مع التطور التقني المذهل وتسارع رتم الحياة غير الطبيعي، ولكن يجب ألا يأخذنا هذا بعيداً عن حقيقة أكيدة، أن وجودك داخل غرفة غير معرضة لنوافذ مفتوحة، مغطاة بستائر حاجبة تماماً للضوء، لا يعني إطلاقاً أن الشمس ليست مشرقة في الخارج.