يتلبد حديث حارب هاشل النيادي بالشغف، يستقيه من إرث الماضي راوياً عبارات جميلة ومواقف فاتنة، كأنه يعيد وتيرة حياة مضت على بدئها الأول، تناثر منها عطرها الجميل والرائع، طمستها الأيام سريعا وغلفتها على عجل، لذا لا يفقه إحدى كلماتها ولا يعي أبناء اليوم معناها، وكأن قدرا أراد أن يمحو سيل الكلمات من أريج الأحاديث الآنية، ويفقدها الأصالة والسحر. يصر حارب هاشل على بث كلمات مضت من قاموسنا اليومي لكن لم تنأى عن ذاكرته، تعشش بفضاء الروح ويستلذ حين يستعيد ذكرها: (حفيز، ميز، صرود، جحف، دريشه، برناص، صرناخ، كنديشين، خوص)، ويتوغل هاشل بعيدا، بل عميقا، بما هو صعب الفهم، يروي عن عادات وتقاليد حقبة زمنية قديمة، وقد اندثر منها ما اندثر، تعرت على مدى الحياة، حين انقلبت الصورة وتوارت ألوان الأبيض والأسود، تحطمت جدران بيوت وأشياء ذات معنى، حين خدشت وترجمت انقلاب المدينة بسحرها على عالم بسيط لكنه كان جميلا وعذبا في وتيرته اليومية. طيف الحياة المتجدد أرجأ هيمنة القبيلة ولون التصحر ومزاجية الفرد وبدأ انفصام آخر، فلم يعد كما قبل إذا ما جلس الولد اليافع على المقهى وارتشف “شاي الكرك” يتلقى عتابا شديدا، أو إذا جلس على كرسي خشبي قديم وحال المقهى يقيظ برائحة بهارات هندية لا تبددها المراوح المعلقة، يتعرض الولد من ذويه لما يوازي العتاب والتقريه، كحاله عند الذهاب إلى السينما وأشياء أخرى لا تغتفر. أما المغزى من ذلك فهو التربية القويمة، حتى لا تتسرب كلمات وألفاظ غير محببة من رواد المقهى إلى عقلية الفتى فتفقده شخصية وأخلاقا إطارها العائلة أو القبيلة، فحين يأتي الفتى بأمر مخيّب تعاب العائلة قبل الفرد وتعاب القبيلة بأسرها. كان كل شيء ينحو نحو التمرد على الطقوس.. وبدأ الخروج عن المألوف لتبدو على وجوه الناس فصول من الدهشة، وهو ما يبوح به حارب هاشل في احمرار العين لكي تكف عن العقاب، وتكف عن الجنوح أو الخلل أو المساس برسم الصورة أو العبث بها. وفي حكاية من حكاياته، يقتاد الأب الولد بمعيته، يد الطفل تشعر بحرارة يد الأب، يمشيان الى السوق، خطوات تسكنها الفرحة، يعود الطفل مكتسبا من مجيئه شيئا جديدا من أصول الحياة وقيمها. والفتاة تلتصق بأمها لتلقنها ما تحتاجه إذا ما كبرت وتزوجت. يظل حارب هاشل يروي عن الحياة ونسقها القديم كمستق من نبع صاف محوره إرث جميل يصله بقراءة متأنية باعتبارها رؤية لأشياء مضت وصورا تجاوزها الزمن، إلا أنها صور تأبى أن تذهب بعيدا لأنها من مفاهيم الحياة تبقى ولا تتعرى ما ظلت لها مساحة، وإن كانت ضيقة لكنها لا تمحى من ذاكرة الوطن الجميلة.