من هذه المرأة التي تجلس القرفصاء على شاطئ البحر. المنحنية على جسدها كالتاء مربوطة. تجلس على رمل ينهار من نسمة. كأنها تجلس بين برزخين في عتمة الوجود. المرأة التي تحدق في أفق غامض من وراء نافذتين في جدار الغياب. المرأة التي إذا لامسها الموج أجفلت. وإذا ندهت عليها الأقاصي، انكفأت. وإذا مسها الهوى والهواء شهقت من لذة واحترزت. امرأة تسكن بين ألف مكسورة وميمٍ ترتدي قبعة السكون. في السكون سكينة وظل. لعلها امرأة لا تحبك ظلالها، وتجلس في حسرة قبالة البحر. كأنها يتيمة تنبش أحلامها وتمضغها. لكن الحلم عسير على الهضم. وحيدة تجلس في وحشة وتلتف بالعتمة ويمحو خطاها الموج. هذه المرأة ذاتها التي رأيتها بالأمس، أو لعلني رأيتها من زمن سحيق. وأظنني سوف أراها كما هي في الزمن الوليد. جالسة قبالة البحر، تحدّقُ، لا شهوة الإبحار تأسرها، ولا لذة العصيان في أحداقها. تحدق كأنها لا ترى في ألف الشموخ نوراً. الألف المتوج بهمزة كالعين ترصد المدى. وتنحني على البهاء. الألف الساطع كالنجم في مداره، منتصباً يضيئها في عتمة السنين. المرأة الجالسة قبالة البحر منكفئة كدائرة أغلقت بقفلين، كأنها قوقعة خاوية وحيدة، ألقى بها العصف في وحشة الوجود. امرأة جالسة تعد حبات الرمل، لكن الرمل في غفلة منها ينسرب. فالرمل لا يحفظ السر ولا يبقى في قبضة الكفين. المرأة الجالسة قبالة البحر لا ترى في البحر غير ثوبها الطويل. لا ترى النوارس طليقة في فضائها. لا ترى الموج في مدهِ وجزرهِ منتشياً طليقاً، ولا تسمع نشيد الكون في نشيجه. المرأة الجالسة قبالة البحر هل عرفت أن في ألف اسمها أعمدة البقاء. وفي ميمها موج ومرجان وميلاد. وفي رائها روح وريحان ورعد، أم أن في رسغها قيد، وفي فمها مر. فأسلمت أمرها للتاء مربوطة!
الماء رجراج أمامها لكنها لا ترى في البحر سوى غموضه وهوله. إنها تجلس قبالة البحر مرتاعة. لا يغاويها وضوح البحر الذي لا يهدأ، ولا الأفلاك في مدار الكون. ولا الكائنات في أسرار أقدارها. لماذا المرأة التي تجلس قبالة البحر لا تشتهي الغوص في أعماقه، ولا تشتهي السفر؟ البحر يهدر ويرجه العصف. واللجة في عنفوان الموج تأتي وتنفجر. المد بعد الجزر يرتفع. فلا بد بعد الجزر من مد. ولا بد بعد الأسر من كسر. ولا بد من ريش بعد طراوة الزغب. ها هو المد يعلو ويعلو، لكن المرأة التي شلها الرعب، همّتْ. لكن سر الكون أن العصف أقوى!