يظل النص الأدبي، يحمل عصيانه ضد التأويل الجاهز واليقيني، والقارئ الذي يذهب إلى القصيدة بنيّة فهمها بشكل مطلق، وبآراء جاهزة ومسبقة، قد يجد ضالته في الصخر، أو في الرماد وليس في الشعر، لا أحد يملك تأويل الأشياء، ويمكن لاثنين ينظران إلى عشبة نابتة في الرمل أن يخلصا إلى تفسيرين متضادين، فما بالك بالنص الأدبي المركب من تعقيدات وإشارات وجمل وصور، تشكل جميعها فضاء النص المفتوح على تأويلات شتى، هؤلاء الذين يأتون إلى الشاعر طالبين تفسير رؤاه، لن يجدوا ضالتهم عنده، لأن القصيدة التي تصف الشجرة بأنها (امرأة ترقص بفستانها الأخضر في عرس العاصفة)، يمكن أن تُحيلنا إلى صورة أخرى في خيال قارئ عذب، فيظنها وصفاً لعرس امرأة تمرُّ وسط عاصفة من التهليل، وقد يظن قارئ خائف، أنها نذير شؤم، وثالث تراه يسأل أين ستختفي الأعشاش، وإلى أين ستلوذ الأفعى إذا تعرّت الأغصان وتكشّفت زنودها.
ينبغي الدخول إلى الشعر من باب التلقي المحض، فهو يشبه حالة وقوفك للحظات تحت شلال ماء، يغمرك ويثير فيك كتلة من الأحاسيس والمشاعر، من غير أن تحتاج إلى فهم معنى الماء، لماذا كان بارداً من جهة، ودافئاً من جهة أخرى، وكيف شعرت به أكثر في منطقة الرأس، ولم تشعر به مطلقاً في منطقة الظهر، والشعر هو شلال كلمات، يدخل الواقفون تحته في عالم من السحر والدهشة والرؤى الغرائبية، وقد يسافر بعضهم في الزمن، وقد يطير آخرون في خيال غيمة، وقد ترى امرأة نفسها جالسةً في قطار وحيد، وفي يدها كتاب ووردة وسكين، وعلى صفحات الكتاب قطرات من دم الحسرة.
عن ماذا يفتّش المنقبون في القصيدة، وهي كلها ذرات خيال متلاشية، الواقع الآخر الذي يتجلى في النص، إنما هو خارج قوانين الطبيعة كلها، فلماذا يُطالَب الشاعر بتوضيح وشرح وتفسير انفلات الخيال خارج منطق الأشياء، ليس بالضرورة أن يكون الحصان الذي يركضُ خائفاً في سباق الهاوية، هو من يسقط أولاً فيها، ولا أحد يَجزمُ أن الخاتم المتروك على طاولة اثنين غادرا للتو هو (خاتم الخصام)، والطفل الذي يرمي صنارته في حوض البانيو، قد يصطاد أسماكاً أكثر من الجالسين على ضفة النهر.
في القصيدة الحقيقية يتشكل عالم آخر، وهو عالم حقيقي، وإن بدا غير مألوف، ولا ينبغي أبداً سؤال القصيدة عن غرضها وقصدها وفحواها، بالطريقة التي يُحقِّقُ فيها شُرطِيٌّ مع طفل بريء.