أنت في السفر، مثل طفل يغادر حضن أمه، هناك أنت تلهو بين الأشجار، وعشب الحياة هناك أنت تشاغب العيون، وتتأمل الوجوه، مترعاً ببهجة المناظر البديعة، ولكنك لا تغفل عن ذلك الحضن، حضن بلادك التي تركت عندها قلباً ينبض بتاريخ من الدفء، والحنان، والانجذاب، إلى رائحة لا يعوضها عبق البساتين، وحقول الموارد الطبيعية في أي بلد من بلاد الدنيا.
وجوه قد تأخذك إلى عوالم فضية لامعة، ووجوه تسلبك، وتجعلك في محطات توقف عند إشراقات مبهرة، ولكنك كلما هجعت في الليل، وجدت نفسك في حضرة الوطن يسقيك من عذب، ويرويك من جذب، وأنت بين هذا البعيد، وذاك القريب، تستدعيك طفولة تتألق بأحلامك، وأيامك، وعفويتك، وفطرة الانتماء إلى تراب ملأ مشاعرك بعطر الدماء الزكية التي سالت في عروقك، وانهمرت أنت مثل محارة تستشف من ريق الرمل المبلل بملح البحر، ورائحة الزعانف التي مرت في يوم ما بين أصابعك، كما تمر الأساور بين الأصابع.
أنت في السفر، كل شيء يمر من حولك فهو مؤقت، وطارئ، أنت في السفر لا تجد متعة أكثر من استدعاء الذاكرة، وإحضار صور الأصدقاء، والأحبة، الذين يتبوؤون مكانة عالية في وجدانك.
أنت في السفر، مثل من يعبر زقاقاً، ليصل إلى واحة تؤمها الطيور التي ألفتها وعشتها، واندمجت مع تغاريدها.
أنت في السفر، تجول مناطق البلاد التي تزورها، ولكنك لا تستطيع أن تشيح بعيداً عن تلك الوجود التي رسمت خطاً يتعرج في داخلك، مثل تجاويف النهر في أعماق الأرض.
أنت في السفر، تزداد ارتداداً إلى ماض ظننت أنه تولى، ولكنه في حقيقة الأمر، مجرد شرشف غطى بعض أجزائك، وبقيت أنت مكشوفاً للحياة، تتأمل الصورة بوضوح، والوطن الذي غادرته، ينتصب مثل شعاع يمرق عبر شق في غرفة نومك، الوطن يداهمك في كل لحظة، وأنت قد ابتعدت عن ضجيج الوجوه، والأصوات، والألوان، والأشكال.
أنت في السفر، لمحة تمر عبر لحظة، ثم تعود إلى سابقات عهدك مع الحب الذي نشأ، والحب الذي ترعرع فيك، مثل جذور الشجر، في ثنايا التربة.
أنت في السفر مجرد، ومضة في ليلة داكنة، ثم تعود إلى ضوئك، إلى غرفتك التي ودعتها، وإلى عطرك الذي لم يزل يغسل فناجين قهوته، استعداداً لليلة جديدة، لزمن جديد.
في السفر، أنت تقضي سهرة مسرحية، ثم تعود إلى مضجعك، وأنت ممتلئ بالفرح، ليس لأنك سافرت، بل لأنك عدت إلى حضنك.
في السفر، أنت مثل من يذهب إلى مقهى، يقضي فيه سويعات، ثم يعود إلى موئله، وفي قلبه مشاعر ملونة بالحب لغرفة نومه.