صامت هذا المساء. صامت مثل قلبها ودربها. كل شيء رماد. الرماد الذي يصبغ الأغطية. الرماد الذي شكّل الأمنية.! كيف لا تستطيع؟ كيف انسلّت روح الشاعرية من روحها؟ وبقيت خاوية دونهما تلفها حرقة وحسرة. منذ لا تدري متى، لم تنقش حرفاً من ضياء. لم تعش شغفاً لحظة واحدة. كأنها لم تعد هي! الظلال التي تمتد حولها، تصير دغلاً. الدغل يعتم، والظلال تصير ليالي ممتدة. الشمس هاجرت. سكنت قارة بين شغفها وروحها، وأخذت معها الشغف وأبقت الرماد. لا الشمس، لا الجمر، لا الجذوة ! غادرها طعم الحلم، ونكهة الإبداع. فمن أين تأتي الظلال وتحيط بها؟ من أين تقفر السنوات وتجردها من شغفها؟ أتقول انتهيت؟ أين مشاعرها وانفعالاتها؟ أين حزنها وفرحها؟ أين وجعها وشفاؤها؟ من استل وهج الحياة وغادرها باردة في كل المواسم؟ هل ستخذلها الروح؟ أين الشاعرية التي ترج خيالها بالحزن وبالفرح؟ أين. الشاعرية التي احتضنتها منذ الصبا. هل تقول وداعاً؟ ها هي ترتمي في غير أوديتها. وتسبح في غير بحارها. وترحل في غير سفنها! كانت بلا سكن فسكنت الشاعرية روحها، وإذ تصير لها سكناً، وجدت نفسها تسكن ولا تستكين! فرّت من ضوضاء المدن وامتلكت الهدوء والصمت، فوجدت نفسها قد فرت وسكنت الفراغ. هي تعرف أن الشاعر فارس يمتطي فرساً رهوانة بلا لجام. فإذا ما ترجل جمد ماء الشاعرية في عروقه! فهل ترجلتْ وصار الفرس الرهوان حمار جر؟! إنها تدرك لغز المياه. وتقرأ كنه الشجر. لكنها تعجز عن فهم السر بين المياه وعشق الشجر. بعثريها أيتها الرياح فوق التراب المخضب بالخصب، وازهريها على كل خطو ياسمين يؤرجح موعده، وكروم تلوح بحلم الثمر. بعثريها. ففي هدأة الخطو موتها. وفي صخب روحها بعثها وغيث المطر.! قليلاً قالت تستنفر الروح، هذي اليتيمة، هذي التي أطعمتها مراثيها والرماد. أطعمتها الخيبة قبل الحصاد. تعذبها بالصدود الممض، بالجفاف، بالتوتر. بالحنين الجارف إلى ما تشتهي، كأن الحنين أشواك تحاصر وردها. شك يراودها أنها ليست تحيا بها! تتوق لوهج مغامر.. لنصل يشق المحارة يشعشعها كلؤلؤة في الضياء.
كانت بحاجة إلى شيء من الهدوء ليطرد حالة الضوضاء والتوتر الذي اعتصرها. عندما دخلت مكتبها وجلست إلى طاولتها، صار للمكتب ضجيج الصهاريج. كل صوت، وكل ضوء أمامها يؤديان إلى توترها. كيف تطفئ الضوضاء وتبدأ الكتابة؟ أن تتوهم وجود أشخاص تحبهم وتتحدث إليهم، وتسمعهم في غيبوبتها أثناء الكتابة. إن هذا الإحساس ممتع ولذيذ جداً. تحس أن مساميرها قد فكت، واسترخى كل شيء فيها، حتى أصابعها التي تيبست، ستعود تنقش الحلم على حجر الكتابة!.