الأفكار المسبقة مفسدة للعقل. هكذا قالها روسو، لأننا نتعامل دائماً مع الآخرين على أساس أفكارنا عنهم، والتي استقيناها من ذاكرة مثقوبة، لا تبقي إلا على حثالة الصور، والمشاهد، والذكريات، وأضغاث الأحلام.
نحن نتعامل مع الآخر بناء على الصورة المتخيلة عن هؤلاء الأشخاص، وبالتالي نقيمهم، ونضع لهم الدرجات الدنيا، لأننا سمعنا هذا الشخص أو قرأنا على وجهه ما نحن نفكر فيه وليس ما هو عليه من واقع سلوكي.
أفكارنا المسبقة تقودنا إلى حروب ضروس ندمر فيها أخضر العلاقة، ويابسها، ولا ندع للضمير ما يسفر عنه، ويخطه على ألسنتنا أو أسماعنا أو أبصارنا.
تقام الحروب بين الأشخاص، وتشعل الحرائق، فقط لمجرد أنهم اختطفوا الصورة الوهمية عن شخص أو أكثر، وبالتالي تصبح العلاقة مثلما هي العلاقة بين الريح الصرصر والأغصان.
عندما يغيب الوعي، ويصبح مثل مستنقع، فإنه لا يحتوي إلا حثالة الأفكار، ونفايات ما قبل التاريخ، يصبح الوعي مثل منفى إجباري، يضم القتلة والمجرمين والمنفيين الذين يشكلون خطراً على المجموع.
نحن في الفكرة المسبقة، نجمع كل الأعواد اليابسة، ونحرقها في موقد وجدان ملتهب، بحمرات الكراهية، ولا ندع مجالاً لتأمل اللوحة عن بعد، وتقصي جمالها، نحن في الأفكار المسبقة، نكون مثل التلميذ الفاشل، لا نقرأ أسئلة الامتحان، بقدر ما نسابق الريح، للتخلص من السويعات التي نكون فيها تحت وطأة المعلومات المبهمة، وبالسرعة ذاتها نخرج بخفي حنين، ونعود أدراجنا بلا معنى، ولا محتوى، ولا نتيجة إيجابية.
نحن في الأفكار المسبقة ننطح صخرة الوجود، برؤوس خاوية، فنتفجر مثل بالونات خاوية، ونذهب إلى العالم بكفوف مليئة بالفراغ.
نحن في الأفكار المسبقة نمشي على الماء، ونسبح على الكثيب، ونمضغ لبان إفلاسنا، ونجتر حشائش أفكارنا اليابسة.
الماضي له بريقه، وله رونقه، وله جاذبيته التي تسحبنا نحوها مثلما تفعل الموجة التي تحمل في طياتها الزبد، وبقايا عظام أسماك نافقة.
الماضي رهيب في قدرته على أسرنا، ولكن من يبقى أسير الماضي، وأفكاره المسبقة، يخسر ما للحاضر من واقعيته، وأحقيته، في تحقيق وجودنا، وتأثيث وجداننا بالنقاء والصفاء.
فلنكن في الحاضر، ولنمش على ترابه، حتى لا تضيع بنا السبل، ونحن نبحث في أزقة قديمة اختفت في أرجائها الأفاعي.
لنكن في الحاضر، إنه الأجمل، وإنه الأنقى، وإنه الثوب الجديد الذي لم يلحقه دنس الأفكار المسبقة.