يقول هيومان هيتسونج، الفيلسوف الهولندي، إن اللعب نشأ قبل الحضارات، وقبل نشوء الثقافة، بل إن الحضارة البشرية نتيجة للعب الذي ابتدعه الإنسان البدائي، ويقول إن اللعب بمعناه الفكري ليس كما هو سائد عن مفهوم اللعب، ولذلك فإن الأطفال الذين يمارسون دور البطولة أو الفحولة في ألعابهم، إنما هم يعبرون عن مناحٍ قصية في التاريخ الوجداني البشري، وهو هنا يلتقي مع سيجموند فرويد في تحليله اللاشعوري الجمعي ودوره في تشكيل الشخصية الإنسانية.
ويضيف هيتسونج أن الرجال الذين يلعبون “الورق” أو في فريق كرة قدم إنما يمارسون شكلاً من أشكال اللعب الغائص في أتون الفكرة الأولى، وهي الانفصال عن الواقع الخارجي بحرية والتزام أخلاقي خاص بهذا الفريق أو ذاك. ويصل هذا الفيلسوف إلى القول إن كل شكل من أشكال الفعل الإنساني هو لعب بحد ذاته، بدءاً من لعب الأطفال إلى الطقوس ثم الحروب، فهذه كلها تعبر عن رغبة كامنة للإنسان بأن يعبر عن ذاته في ظروف مكانية وزمانية معينة تفرضها الحاجة إلى فرض أمر واقع مغاير للواقع الحقيقي. وهو يتوازى مع أفلاطون القائل: “إن صناعة المثال لعبة بشرية تحيكها نوازع ورؤى لأجل الخروج من واقع إنساني مأزوم بالخيفة والضعف أمام المجهول”.
فالرقص لعبة، والفن التشكيلي لعبة، والأدب لعبة، والفضيلة كما هي الرذيلة لعبة مع اختلاف في السبب والنتيجة، وكل ما يحيط بالإنسان ويحيق به لعب على المكشوف، الهدف منه إخراج الكامن إلى حيز الوجود وتأكيد الذات من خلال صناعة واقع إنساني تصنع خيوطه نفس أمارة في مقابل نفس لوامة.
وماذا عن السياسة.. هي لعبة الحضارات في مقابل التاريخ المتحرك في زمانه، هي لعبة الفكر الإنساني في مواجهة الخوف والهزيمة، فنحن نلعب عندما نرسم صورة، ونلعب عندما نكتب الشعر، ونلعب عندما ننظر إلى السماء ونخرج بفكرة تؤسس نظرية حول الوجود، ونلعب عندما نمارس السياسة، فنهادن هذا ونهاجم ذاك، ونقف في المنطقة الوسطى بين خصمين متحاربين أو متخاصمين، أو نقول لهذا الخصم شيئاً ونفعل شيئاً آخر. نحن نلعب عندما نفسر الأحلام أنها تنذر ما قد يحصل في المستقبل لشخص ما أو مجتمع ما.
نحن نلعب، واللعب هو النقطة الفاصلة ما بين الجد والهزل، ومن هنا تنبع أهميته؛ لأنه بلا فواصل محددة، وبلا شكل يحدد مكانه في النفس البشرية. ومن هنا تصدق المقولة عن الحياة، إنها مسرح ونحن لاعبون على خشبتها، نحن ممثلون، فمن منا يجيد، ومنا من يخيب، وتبقى الحياة مسرحاً واسعاً يستقطب كل أشكال الحراك الإنساني.


marafea@emi.ae