في السيرك، ثمة لعبة بهلوانية خطرة تتم بين لاعبين: رجل وامرأة، يسمونها “لعبة الموت”، أو “قبلة الموت”. والمقصود منها أن تكون قبلة سريعة خاطفة بين عاشقين في فضاء السيرك، وهي قبلة حياة، لكن تحمل خطر الموت إذا حصل خطأ ولو طفيف في الحسابات، فتتحول الى قبلة موت يتحطم من جرائها جسدان على أرض السيرك. فلاعب السيرك ينال هذه القبلة من رفيقته في الجهة المقابلة، وهما طائران على أعلى مسافة في الفضاء، وفي النقطة الدقيقة المحسوبة بين الموت والحياة، حين يندفع اللاعب بكامل قوته ممسكاً بالحبال نحوها، وتندفع هي أيضاً بكامل قوتها، ممسكة بالحبال نحوه، وبعد اندفاعات عديدة، تزيد من سرعة اللاعبين، وتؤجج حماسة التلاقي والالتحاق، وعلى ارتفاع شاهق بعشرات الأمتار، تقذف اللاعبة بكامل جسدها في اتجاه رفيقها، بعد أن تترك الحبل الذي كانت ممسكة به. وفي تلك اللحظة الفارقة القلقة المعلقة بين السقوط والالتحام، بين الموت والعناق، يحدث هذا الالتحام الرائع، وتتم القبلة. وأحسب أن العشق في الحياة بين رجل وامرأة، يتم كما تتم قبلة الموت ـ الحياة في لعبة سيرك. إنه لقاء، بل عناق بين طرفين على شفير الهاوية، وينطوي على المخاطر الكبيرة التي تنطوي عليها المغامرات. ولا يقبل من المغامرة بأقل من عناق الحياة، ولا يقبل الخطأ، لأن فيه الموت. والحياة في الحب، كالموت، كلاهما انتصار.. بل كلاهما زواج أجساد ونفوس. فليس انسحاب العشاق المعاميد في ساحات اللقاء وانطواؤهم الموجع على أحلامهم، بأقل نشوة من اقتحام العشاق لمحبوباتهم، فهنا جسد معجل، وهناك جسد مؤجل. والعلاقة في الحب، من حيث تدعو بالبداهة للطمأنينة، نراها دائماً مشوبة بالخوف. ونسأل: الخوف ماذا؟ ونجيب: من الجمال.. فكل جمال حقيقي ممتع ومخيف. وهذا الإحساس المركّب تجاه كل ما هو جميل نحسّ به وجودياً تجاه الأماكن والأزمنة والنساء والأولاد. ففي الجمال غموض السحر وغموض السر وغموض المجهول. بل لعل أقرب ما يكون للجمال هو البحر الذي تقف أمامه وتنظر إليه وربما غصت في مياهه.. لكنْ حذارِ.. ففي أحشاء الزرقة المعتمة، سفن كثيرة محطمة وعظام بحّارة راسبة في القاع، تتجاور الى جانب مناجم اللؤلؤ والياقوت والمرجان. والعلاقة بين الجمال والخوف بدائية فطرية حسية ونفسية. في رباعية من رباعيات صلاح جاهين بالعامية المصرية يصف الشاعر طول انتظاره للربيع كي يرجع، ويقول إنه قلق وخائف بسبب انتظاره للربيع. ثم فجأة ها هو الربيع يعود.. فيسأل الشاعر نفسه: ما الذي يجعلني الآن أبتدئ بالفزع؟