لم يكن دمعها جرحاً، وإنما فيض حنينٍ مستعر. المرأة التي غادرت أحلامها مبكراً يجرّها ظلُّ رجلٍ من دار إلى دار، ومن حفرة إلى حفرة في طريق الفقر. رأيتها أول مرةٍ في عيون الأطفال المشردين، أطفال الشوارع المنهوبة ابتساماتهم، وأطفال الحروب، والأطفال المربوطين على كراسي الطاعة برؤوسٍ منحنية وأفواهٍ مغلقة. ثم حين كبرتُ لاهثاً أركضُ من مجهول إلى مجهول، رأيتها تُلاحق فراشةً بيضاء في غابة من الشوك حتى تهشّمت قمصانها وخطّ الألم قصائده على أكتافها النازفة. لم أعرف اسمها يوماً، لكن أبي كان يشبّهها بالحرية الجريحة. وسمعت أساتذتي في الفصول يلقبونها بأنها (الحقيقة). وتناهى إلى سمعي يوماً أنها وُلدت من صلب ضدين اتحدا ثم تنافرا حين فرّق بينهما سيف السؤال. هكذا سأظل أتبع لغزها حتى لو قيل في نهرها التماسيح. منجذباً للضوء الخفيف الذي يغلّف هالتها إذا ابتسمت. وللضوء العظيم الذي تسير نحوه وأظنه ضوء الخلاص الأخير.
لم يكن غناؤها ندماً، وإنما سرد حال. المرأة التي كلما تركت أثراً على جبين المخلصين لها، ماتوا عمياناً، وتفرقت خطواتهم نحو ألف هاوية وهاوية. وهي المرأة التي تيبّس نحرها وهي تصرخ: لا تقتلوا المرايا، لا تطعنوا الظلال فإنها منكم. لكن جيشاً من المعذبين راح ينتفُ كلماتها حتى تصحّر صوتها، ولم يبق فيه سوى بحة ناشزة، وموالٍ مخنوق. وأنا لم أناديها، لكنها ارتفعت على شكل قصيدة في نصف أحلامي، ونزلت على شكل ممحاةٍ في دفاتر الخائفين. سمّيتها مرةً الذكريات. تلك الذكريات التي تشابك أبيضها وأسودها واختلطت مرارة أيامها بعذب أمانيها وهيهات منها النجاة. ولو أقف اليوم على منحدر النهاية، لو أخلع أقنعتي واحداً واحداً وأرميها في السراب، هل أرى وجهي الحقيقي منعكساً في رحيل الغيم؟ هل أشمّ عبق السهول المفتوحة على الأبد، وأبدأ رحلة التيه؟ أم أنها تجرّني من عروق ضعفي، وتُقعدني من جديد طفلاً دميةً في يديها.
كلما ضربتُ على قلبي استيقّظ صوته. الرجل الذي اسمه الأمل. الرجل الذي لاحقت هروبه من منفى إلى منفى ولم أعثر على قبعته بعدُ. كان الزمان صبياً يركض في الدائرة الضيقة، وكان المكان لوحةً لبابٍ مفتوح معلقة على جدار أخرس. والمرأة التي اختارت أن تحدّق طويلاً في هذه اللوحة خسرت خطوة البداية وتلاشت من أحلامها تفرعات الطريق.