“تشبه طحنَ قرون المواشي” هذا التعبير استعمله نقَّاد ولغويّون قدامى، كتشخيص لحالة شعريّة وربما ثقافيّة عامة... ذلك النوع من الشعر الذي يستدعي وعِرَ الألفاظ وغريبه، فتأتي الأبيات أو القصيدة، عبارة عن فضاءٍ من كتل لفظية مسنّنة، يتعثر حدّ التخبط والسقوط بين أسنانها العكِرة وصخورها، القارئُ المتجشّم عناءَ تجربة غير ممتعة ولا دالَّة ومفيدة بالمعنى الجمالي والروحي.. إنها النص الخلبيّ الذي يعد بكل شيء ولا يفي إلا بعًَوزه المدقع.. تنسحب هذه العبارة الطاحنة شعراً وقراءة، إلى حقول معرفيّة مختلفة، كما تنسحب على الأزمنة المختلفة.. ففي العصر الذي نعيش، والذي يتّسم بانفجار التعبير وتنوّعه كما يتغيّر المفاهيم الشعريّة والكتابيّة عامة، نجد تلك الجعجعة اللفظيّة وطحن قرون المواشي والعربات والطائرات التي تنطلق من أساطيلها الرابضة في أعماق المحيطات، نجدها في الشعر الحديث والرواية والنقد المتفلسف من غير طائل والمعبأ بالمصطلحات والقرون المطحونة بكثافة تحجب أيَّ دلالة لأثرٍ ما، يدّعي دراسته وسبْر أغواره، هذا النقد.. فكأنما هذه الحشود اللفظية المجلجلة، ليست إلا لستر الخواء والفقر الروحي والمعرفي.. تقرأ كتاباً أو كتباً في هذا السياق وتتنكّب الطريق الوعِر أيما وعورة، ضاغطاً على أعصابك التي توشك على الانفجار، مستنفراً كل قدرات الصبر والاحتمال، لعلك تصل إلى شيء ذي معنى في هذا الطريق المليء بالعربات الضخمة المطحونة، والجثث الإصطناعيّة المجندلة في أعماق الطريق وعلى الجنبات، وفي الأفق المحيط الملبّد هو الآخر بغيوم اصطناعيّة، لكنك بالطبع لن تجد غير المجانيّة والفذلكة والإدعاء الفقير.. ينسحب هذا على الشعر والرواية والسينما.. منذ سنين، سنين والشاعر “العظيم” في نظر نفسه وبضعة مريدين غالبا في بداية حياتهم الأدبية أو في طور الجمود والتبلّد، يدبّج القصائد والدواوين والخطابات التي تذهب في الطحن والدعس و”التفجير” كل مذهب واتجاه.. تتراكم النتاجات والخطابات المرافقة من إعلاميّة و”نقديّة” وفي مرآة هذا الصخب وهذه الجعجعة “اللفظية”.. والإعلامية تبتعد وتضيع الحقيقة الإبداعية في بحر شفافيتها الخاص والبعيد كل البعد عن هذه الخطط والاستراتيجيّات التي يحوكها شعراء وروائيّون لا ينقصهم وهم سلطة ومراكز قوة متوهمة عن أقرانهم السياسييّن، الأكثر انسجاماً بهذا المعنى مع وهم سلطتهم ونفوذهم وأكثر تماهياً مع هذا النفوذ الواقعيّ والمتخيَّل.. منذ سنين، سنين والشاعر العظيم، الروائي العظيم، الناقد العظيم يطحن قرون المواشي، لغةًً ومعنى، ليستر فقراً روحيّاً، وخواءً، ما كان لستره وتمويهه إلا بهذه الحشود البلاغيّة الكاذبة التي تذهب كل مذهب في تِقانة العصر الحديث ووسائل اتصاله وهيمنته التي يستغلها أصحاب وهم السلطة والنفوذ لترويج بضاعة فاسدة وذوات ينخرها التوّهم والإنحدار القيمي والإبداعي.. وحدها الحقيقة الإبداعيّة والأخلاقية تائهة في بحر شِغافها وشفافيتها وحدسها العميق، هناك حيث يجب البحث والسفر.