يذهب الكل إلى فرنسا، وفي رأسه شيئان يعرفهما عن فرنسا «برج إيفل» و«متحف اللوفر»، ولا يدرك جمالهما إلا إذا رآهما رؤيا العين، واستظل بفيء قريب منهما، هكذا دخلتها بتلك النية لأول مرة في نهاية السبعينيات، طالباً يتوكأ على حب المعرفة، وعشق لنهار المسافات، لا تسعفني لغة القوم، فقد أتيتها مستذكراً لغة جيرانهم الإنجليز بعدما استقررت عند عائلة لأشهر في ذاك الريف غير البعيد، غير أن الهوى ليس الهوى، فبعد بيوت الرماد والقرميد الكئيب، وما تحمله بيوت الإنجليز من برودة متعمدة، كانت هناك في المقابل على ضفة «المانش» الأخرى فرحة بيضاء تضيء بيوت باريس، ثمة تأنق في كل شيء، ورائحة عطور أنثوية تتبعك، وأحياناً لا تجعلك تمر سريعاً، هكذا عرفت باريس لأول مرة ذات صيف لن يتكرر، وهكذا عرفت «برج إيفل» و«متحف اللوفر» لأول مرة، بعيداً عن صور المجلات، وطوابع البريد الممهورة، وتلك المناظر التي يرسلها عادة هواة جمع الطوابع والمراسلة لأصدقاء لن يستمروا طويلاً، وبعد سنوات من تخرجي في الجامعة، ذهبت لباريس للدراسة، وحينها أسعفني الحظ حين سكنتها في أن أكون قريباً منهما، فعلى بُعد خطوات متابعاً نهر «السين» بعكس مجراه أصل للواحد تلو الآخر، كنا شبه متجاورين، أكتفي بنظرة من بعيد لذلك البرج الحديدي الذي كان في يوم من الأيام سيفكك، ويستعمل حديده في محطات القطارات بعد ما أدى الغرض منه بانتهاء المعرض التجاري، غير أن المخلصين، وهم كثر، وحرّاس الأوطان، وهم كثر، تصدوا لحملة من نادى بتحطيم أضلع «برج إيفل»، واليوم هم من كسبوا ذاك الرهان، والأهم أن فرنسا من كسب الرهان الأكبر، حين غدا هذا البرج رمزاً وطنياً لفرنسا، أما «متحف اللوفر» فكنت أتردد عليه في ساعات الفراغ الطويل، وفي الأيام الممطرة الباردة، كنت أحب أن أزوره لوحدي من أجل التوحد بتلك الأشياء الجميلة والثمينة التي فيه، ولشد ما كنت أكره أن يأتي ضيوف، وهم في باريس كثر، ويطلبوا مني أن أزوّرهم «برج إيفل» و«متحف اللوفر»، وبعضهم يتمادى، ويطلب أن يزور مدينة «ديزني لاند»، فلا أنا المرشد الجيد، ولا أنا ذاك الذي يتحلى بكثير من الصبر على أسئلة تلاميذ غير نجباء، وأجوبة لن تعلق برؤوسهم حينما يغادرون مطار «تشارل ديغول» بعد أسبوع. كان يومها «متحف اللوفر» قريباً، وحين اعتزمت أبوظبي في مرحلة نهضتها الثانية أن تختط لنفسها مكانة ثقافية أخرى، وفاوضت على «لوفر أبوظبي»، يومها ثار بعض اليمين المتطرف، وبعض المتعصبين بالجهل، وعدّوه «لوفر الصحراء»، وأن ثقافة فرنسا ليست للتصدير، وها هم اليوم يخسرون، كما خسر المراهنون يوماً على تحطيم «برج إيفل»، وكسبت فرنسا رهانها الحضاري، كما كسبت الإمارات فضل خيارها الثقافي، اليوم.. فقط أصبح «اللوفر» الذي كان قريباً، أقرب.. وأقرب!