بقي العامل الاقتصادي لعقود طويلة هو المؤثر الأساس في شكل الكثير من التقاليد التي يعتقد بها الناس، وسواء كان ذلك في الغرب أو الشرق فقد تحكم الوضع المادي للأفراد على ما يقومون به من سلوكيات لتحقيق قيم عليا- اعتادوا عليها وورّثوها لأبنائهم في حياتهم اليومية ومناسباتهم المختلفة في أفراحهم وأحزانهم. وبقدر ما للتقاليد من أثر بليغ في ربط الأجيال بقيم ذويهم ومعتقداتهم، وتعزيز هويتهم بأنفسهم والتماهي مع محيطهم، بقدرما أضعف ارتباط التقاليد بالعامل الاقتصادي من صيغتها، فجعل لها هيئة متغيرة، كونها مرتبطة بمستوى دخل يتغير صعوداً أو هبوطاً، حسب القدرة المالية لتحقيق طقوس التقليد.
تعرضت الكثير من تقاليدنا وطقوسها -منذ ما يزيد على العقد والنصف- إلى تغيير كبير بسبب التطور التقني. ففي حين كان للعامل الاقتصادي دور مقتصر في تشكلها واستمرارها فقط، أصبح للتقنية وأدواتها دور أكبر، ليس فيما سبق وحسب، وإنما في خلقها وانتشارها وتوسيع دائرة ممارستها، وفرضها على المجتمع مهما كانت ظروف أفراده، وهو الأمر الذي أدى إلى هشاشة هذه الممارسات، كونها لم تعد تقاليد يمارسها الناس ارتباطاً بقيم آبائهم، بل سلوكيات مظهرية للحصول على انتباه الآخرين السطحي وتعزيز الرفاه العاطفي المؤقت. وعلى عكس ما هو مفترض بأن تستند أية تقاليد إلى مرجعية قيمية دينية وأخلاقية مستقاة من الأسرة والمسجد لتحقيق مصالح إنسانية، أصبحت تقاليدنا معتمدة على مرجعيات عابرة للقارات مستمدة من شبكات التواصل الاجتماعي، مرجعيات نفعية لتعزيز النزعة الاستهلاكية وتحقيق مصالح تجارية بحتة.
عرفت التقاليد كما ذكرت آنفاً لزيادة وعي الأفراد بذواتهم ولتعزيز هويتهم الثقافية والتماهي مع محيطهم وربطهم بماضيهم، بينما بعض ما قد نقوم به حالياً بدعوى التقاليد، لا نتيجة له إلا «اغتراب». وهو شعور يصيب الإنسان فينفصل فيه عن ذاته، ويصبح مرهوناً من سواه وتابعاً لآلية مجهولة تكبل حريته وتخالف قناعاته. إننا نعيش في وقت يشهد أسوأ ما عرفه الإنسان من استلاب، رغم انتهاء العبودية وشيوع اعتقاد سافر بأننا في أزهي عصور الحرية التي شهدتها الإنسانية، وسيكون القادم أشد حلكة، في ظل التغيرات التقنية المتغلغلة في حياتنا والمتعدية على قيمنا الحقيقية.. فهل من أمل لنفوق من غفوتنا؟