كانت علاقتي بالشعر تشبه علاقتي بالميكانيكا، بل لعل الأخيرة أفضل كوني استوعبت الكثير من عمليات حركة المادة والأجسام المعقدة لأنها جاءتني في سلم تعليمي متدرج، أما مع الشعر فالأمر مختلف. حاولت كثيراً الاقتراب إلى هذا العالم اللغوي، بالترويض والحرص والحفظ والتحليل، ولكن دون جدوى. فما إن تنتهي الحاجة الدراسية منه، حتى تنقطع العلاقة فوراً؛ بقيت على حالي ذاك حتى بعد انتهاء دراستي الجامعية، واقتنعت أن الشعر «لا يحبني» وارتضيت مكتفية بعلاقتي العميقة بأشكال البيان الأخرى؛ فكل ما كان فيه من البلاغة والفصاحة وحسن المنطق كان عندي محل تقدير وإعجاب، وإذا عبرت أبيات لقصيدة في مقال أو رواية تجاوزته؛ وللأسف.. لست بذلك إلا حارمة نفسي من فردوس اللغة! لا أعلم متى يبدأ أطفال الإنجليز في تذوق قصائد وليام شكسبير وحفظها، ولكني أعلم أن المرحلة العمرية التي درسوني فيها قصائد المتنبي وابن الرومي والبحتري لم يكن لديَّ فيها أي أداة تذوق شعري، فلا وعي يستوعب ذلك العالم المفاهيمي المليء بالقيم والرؤى، كما أنني لم أكن في سن تستهويني فيه عصارة المعاني والإطالة كما في شعر المعلقات التي أخبرونا عنها أنها كانت دليلاً على قوة ملكة وغزارة نفس الشاعر؛ ولم يفكروا في أنه كيف لطفل أو مراهق أن ينجذب لقصيدة مكونة من 103 أبيات كمعلقة طرفة ابن العبد أو عمرو ابن كلثوم؟ وكيف لذاك السن أن يستوعب الأهمية البالغة للمعلقات كونها تحوي من أروع ما كتب العرب قبل الإسلام، من دقة المعنى وعلو الخيال وبراعة الوزن وصدق التصوير؟! لقد كنت ـ كغيري ممن درسوا ذلك في مناهج اللغة العربية ـ في سن مبكرة جداً يصعب فيها تذوق أي جمال لغوي، ويستحيل معها استيعاب القيمة العظيمة لهذه المطولات، التي أكاد لا أذكر شيئاً مما درستُه عنها، إلا أنها كتبت بالذهب وعلقت على جدار الكعبة بسبب فرادتها! والآن بعد كل هذا العمر من القطيعة، وددت لو أن هذه المطولات كانت في مناهجنا في اللحظة المناسبة، عندما يزداد فضولنا مثلاً فنبحث عن شكل حياة ذلك العصر ـ الذي أخبرونا أن كل شيء كان سيئاً فيه رغم ذاك الإنتاج الأدبي ـ لتأتي المعلقات بدل سرد التاريخ في إيضاح المخفي. أو أنها كانت ملزمة عندما يصبح العالم المفاهيمي قابلاً للإدراك لدينا، لكي نستلذ بشعر الغزل والحنين والرثاء؛ أو عندما ننضج فكرياً فيصبح البحث عن مفردات جديدة مطلباً ملحاً للتعبير عن أفكارنا. إن التمييز الجمالي للغة، عملية تأتي في مرتبة عليا في مراتب الفهم والإدراك، فالتذوق مرتبط أساساً بالحالة العمرية المؤثرة مباشرة بالحالة الشعورية، أي الإحساس بالنص والإقبال عليه، وإلا كانت النتيجة فجوة أو قطيعة نفسية، فهل من مصغٍ إلى ذلك، أم أن لا أمل كما قال الشاعر عمرو بن معد: لقد أسمعت لو ناديت حياً/ ولكن لا حياة لمن تنادي