السؤال الذي صار عنوانا لرواية روجيه غارودي الوحيدة “من أكون في اعتقادكم؟” يصلح لمناسبة رحيله أن يوجَّه إلى المثقفين والمواطنين العرب ـ والمسلمين لحاجة أخرى ـ فقد كان بعيدا عن عالمهم، بل هم بعيدون. يرونه ويقرؤونه إسلاميا مرة باختلاف حول جدية تدينه، وماركسيا يبشر بـ(واقعية بلا ضفاف) لها نهج انشقاقي يشير إلى بدء افتراقه عن التنظيم في قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي، والذي سينتهي بالخروج ومواصلة البحث في واقع الإنسان ومستقبله. الفيلسوف الملاحَق في وطنه بمحرقة أعدت له وتسببت في ما يشبه إعدامه حيا، لم ينكر ألمه مما لاقاه بجريرة عقلانية تساؤلاته حول حقيقة ما جرى في حرب عالمية، دفع هو نفسه ثمنها ثلاثة وثلاثين شهرا من السجن والعمل السري المقاوم للنازية؛ فكانت مكافأته أن يحاكم بعد خمسة عقود؛ لانه شكّك في حجم المحرقة ومسببيها الذين هم أوروبيون بالمناسبة! بينما عوقب الفلسطينيون بسببها وصارت أرضهم مباحة، توصف في الأدبيات والخطاب الصهيوني بأنها أرض بلا شعب، ستعطى وفق الأسطورة المحركة للسياسة لشعب بلا أرض! لكن قضية غارودي وعبر السنوات الاخيرة من عمره الطويل تدعو للتأمل بصدد الضمير الغربي والوعي والمواقف الدوغماتية والمغالطات. فاللاسامية غدت تهمة جاهزة لكل من يريد أن يواجه الصمت الذي وصفه غونتر غراس قبل أشهر بأنه لم يعد ممكنا، وهو الموقف نفسه الذي حدا بغارودي بعد اجتياح الجيش الإسرائيلي لبيروت أن يعيد النظر ويسأل ويدقق في المبررات والخطايا والسياسات والأساطير والابتزاز. لكنه في الواقع كان يتجاوز حدودا حمراً وضعتها أصوليات جديدة صاعدة في الفكر الغربي، لا تُراجع ولا تسأل. فجوزيَ بما يشبه المحرقة الشاملة لتاريخه الشخصي وفكره وكتاباته. وكان كتاب الزميل شاكر نوري وهو من حاضري محاكمته حول ما أعد له من عقاب وصفا بليغا لقضية مفكر واصل مهمة التفكير والبحث والسؤال. وأكثر الشكوى ألما ما أفضى به غارودي حول تشويه تاريخه وفكره، وتكرارالجاهلين به للتهم المخالفة لحقيقة الرجل، فصار اسمه محل شك وخوف، أحسست به شخصيا في لقاء عربي غربي في صنعاء، حيث نبهني زميل عربي يعيش في فرنسا إلى ضرورة تجاهل اسم غارودي في حلقة نقاشية حول الرقابات على الفكر في الشرق والغرب! ما جعلني أحس بحجم الإرهاب المسلط على الفكر المغامر بمناقشة تابوات الغرب العصرية. والتي ستتكرر مع ادوارد سعيد وتشومسكي وغيرهما. العرب اليوم سيرون في غارودي ما لم يره مواطنوه، فهو المفكر الحر والفيلسوف الأخيرالمخضرم رغم أنهم لم ينصفوه، وظلوا يجهلونه حتى في صياغة اسمه بالجيم او الغين! طعنات كثيرة تلقاها غارودي وخيبات، لكنه لم يفقد الأمل، وكانت لديه أسبابه للعيش، أليس هو القائل “إن البشر لا يموتون حقاً إلا إذا فقدوا مبرراتهم في الحياة، وهذا وحده ما يجعلني أعيش”. أخيرا اكتفى بما عاش، وبما صاغ من اسئلة حياته وتحولاته، ثم طوى سجلَّه وغاب.