عسى سكوتك عني خيراً أيها الناي. أنا الذي ولدتُ بفمٍ عصيّ ولكن روضتني النواهي طفلاً، وأقعدتني قبل أن أجري خطاي. جلتُ في الدائرة الدائخة صبياً يلاحق ذيل النهاية وهي لم تبدأ. وكان الكلامُ يواربُ خلف معناه في حناجر الشعراء، وكان المدرّس أقصرُ من عصاهُ، والدفاتر للنسخ لا للفهم ولا للسؤال. وفي الطريق مشياً من البيت إلى المدرسة، فسحةٌ للقدر الذي عشته حراً. وأما ما قبله وما بعده، مجرد جسر بين متاهتين. ثم تكرر الأمر في صورة رجلٍ يمضي بالسيارة في الطريق من البيت إلى العمل وبالعكس. وكأن الدائرة الدائخة هذه اتسعت ليس إلا، وفسحة القدر الذي أبغيه ضاقت وضاعت في الشوارع الفسيحة وإشارات المرور. لم يقل لي الدهر إلى أين أمضي، ولا جاهر الفلاسفة لي بالنصح أين أهيم. محبوسٌ في الذهاب وفي الإياب ولكني في غياب. وصوت الحقيقة الصمت، وجوهر الحكمة في تلاشيها، وزبدة المعنى أنه متغيرٌ ويخالف آخره أوّل ما فيه.
عسى سكوتك عني خيراً أيها الناي. غادر الرعيانُ القرى وتفرقت قطعانهم. وأنا جليسك لم أبارح صخرتي ولم تسدُّ أذناي بعدُ. وما مسعاي إلا أن ألوذ بلحن صفوك، وأن تشردني نغمة التيه في المدى المفتوح، وأن تغسلني الأمطار من عجاج لهاثي وراء سراب المعاني الزائلة. بادلتُ قلمي بناي. بادلت ُ روحي بغيمة، وفرشت نصف الأرض بما تبقى لي من ظلال. والأصدقاء على كثرِ تقديسي لزمانهم، كانوا يطرقون باب الريح مثلي ولا يدخلون. وبعضهم تنكّس وذوى ونخر الفصامُ قلبه. وبعضهم لبس بدلة الغريب وشاخ وحيداً قرب حائط المنفى. وجرى كل هذا بسبب كتابٍ تجمهرت عليه أيادينا ولم نكتبه بعدُ، ولا عرفنا كيف ننحت حرف الميم على غلاف صفحته الأولى، ولا حرف المحبة في أول السطر. والكلمات التي تهجّيناها كانت تراشقاً بالعتاب ليس إلا، والأسماء التي كتبناها كانت لأقنعة لم يرَ وجهها الحقيقي أحد قط.
اليوم، حين أغادر دفتر الذكريات مذعوراً من تشابه تكرارها. لا أرى الطفولة إلا في الحافلة. ولا أرى الرجال إلا آلاتٍ في مطحن المال. والطائر الذي بنى عشه على سلك الكهرباء، ظل يكبرُ في سرحاننا، ونبت على جناحيه ريش الحديد، ولا أحد يدري متى سيطلق صرخته ليشقّ ليل هذا الصمت كلّه.