لم أكن حتى ذلك الوقت, من أعوام الثمانينيات, قد رأيت له صورة. فقد وصلت روايته إلى بيروت بلا صورة للمؤلف. لكن في المقهى القاهري، حيث التقيته عرفته من صورته. أقصد من ملامح وجهه. فكل تفصيل فيه يوحي بأنه مبدع حرفته الكتابة: شعره الفوضوي وشاربه الكث ووجهه الأبيض. طيلة سنوات الكتابة والنشر، المديدة، كان ابراهيم أصلان كاتبا متعبا للقارئ المحب لإنتاجه. فهو ما أن يمده برواية، حتى يغيب سنوات قبل مثوله مرة جديدة بين يديه. فصاحب “مالك الحزين”، الرواية التي وضعته بين أسماء الصف الأول في عالم السرد العربي، كان على الورق غيره في جلسات المقاهي أو داخل غرف الحكي. هو حكّاء من الدرجة الآسرة. يروي التفاصيل بحيوية طاغية، يرفقها بمؤثرات صوتية يجيدها وحركات تمثيلية إن اقتضى الأمر. يستحوذ ابراهيم أصلان في الحكي على مستمعيه لساعات، لكنه على الورق يصبح ضنينا بكل كلمة يكتبها. هنا، أختلف مع من وصفوا كتابته بأنها تشبه البرقيات, ربما بسبب عمله لسنوات في دائرة البريد. ابراهيم أصلان لم يكتب برقيات في روايته، لكن الصحيح هو أنه لم يكتب ما يمكنه الاستغناء عنه. لهذا وصفه البعض بأنه “كاتب المحو”. يمحو ما كتبه لكي يكتبه من جديد. يعرف ابراهيم أصلان، أكثر من غيره ربما، الحدث الذي ينبغي أن يأتي في سياقه، والتفصيل الذي ينبغي أن يرتفع إلى مستوى الحدث. لقد كانت شخصية “الشيخ حسني” في “مالك الحزين” هي الحدث وهي السياق العام، وفي أعطافها ظهرت بقية الشخصيات، لكن شخصية واحدة بينها نافست حضور “الشيخ حسني” في الرواية وكادت لولا ضآلة الدور والمساحة أن تطغى عليها. إنها شخصية “العم مجاهد” بائع الفول، التي التقطها داوود عبدالسيد في فيلم “الكيت كات” المأخوذ عن الرواية ومنحها ما تستحق على الشاشة. كان حضور “العم مجاهد” الصامت مؤثراً، وكان موته الهادئ محملاً بأعلى نبرات الصراخ والضجيج. أختلف مرة أخرى، مع من صنفوا ابراهيم أصلان في إطار واحد مع خيري شلبي (الراحل هو الآخر قبل أسابيع). لقد كان الاثنان صديقين لصيقين، جمعتهما المقاهي والمنتديات وهموم الحياة والسياسة وغيرها.. لكنهما على مستوى الإنتاج الإبداعي, يسيران في اتجاهين متوازيين، يتساويان لكنهما لا يلتقيان. يستلهم الكاتبان موضوعاتهما من بيئة شعبية واحدة، مدينية في حالة أصلان وريفية (في الغالب) في حالة شلبي.. وبقدر ما كان أصلان يتصف بالندرة، فإن شلبي يتصف بالغزارة والإسراف في سرد تفاصيل يمكن الاستغناء عنها. كان الثنائي يحتاج إلى استعارات متبادلة لكي تستقيم معادلتهما. يستعير أصلان من شلبي غزارته، ويتمتع شلبي بتقتير أصلان. على العموم تلك أمنية من النوع الذي لا يحسن أصلان كتابته، أو أنه يمحوه إذا ما كتبه. فصاحب “عصافير النيل” و”وردية ليل” و”خلوة الغلبان”، لا يمكن أن يكون إلا ما كانه. هو يشبه كتبه وهي تشبهه. عندما تقرأ “شيء من هذا القبيل” تحتار في تصنيفها. مع كل صفحة تمنح الكتاب توصيفا جديدا. هو كتاب جمع فيه أصلان مقالات نشرها سابقا. لا، إنها قصص قصيرة بث فيها كاتبها نتفا من معارفه ومن اختلاجات روحه. لا، إنها نص مفتوح يجمع في بنيانه تقنية المقال وروحية القصة. لا، إنها رواية جعلها مؤلفها مفتتحا لنوع جديد من السرد.. هذا هو ابراهيم أصلان.. أو “شيء من هذا القبيل”. عادل علي adelk58@hotmail.com