يبدو أن لتأثيرات السياسي في الشعري تجلياتٍ ومظاهر باتت تزداد وضوحا في العقود الأخيرة حيث احتدمت الأحداث والصراعات والتحولات. ها نحن نشهد لقاءات للشعر بمسميات متعددة: مؤتمرات لقصيدة النثر، وأخرى تحاول احتواءها بمؤتمرات مضادة، كان آخرها عن قصيدة الشعر، وهو ما يجلب الاستغراب والتساؤل.. لكن معرفة الحيثيات والمبررات تبدد الغموض، فوراء الدعوة نيّات لا يخفيها الدعاة تتلخص في تعزيز قصيدة الشعر الحر لإيقاف طوفان الكتابة الشعرية بقصيدة النثر التي صارت لشرعيتها وشعريتها معا وجود فعلي كحقيقة لا يوقفها رفض أو اتهام. تلك اللقاءات المتحمسة تحت سقف مسمى فني أو في فضاء شكل شعري تنقل الجدل والصراع بين الأنواع الشعرية والأجناس الأدبية خارج النصوص؛ لتتكتل في ما يشبه الأحزاب والجماعات السياسية التي لا ترى سواها ولا تراجع قناعاتها، وهو ما أصاب الحركة الشعرية في بعض مراحل تطورها ولم يعد عليها بنفع جمالي على مستوى التقبل، ولا بتغيير في البنى على مستوى الفن، وربما كان لقاء الجماعات الفنية العربية أكثر جدوى لأن القاسم المشترك بين أعضاء الجماعة هو السمة الأسلوبية المعبر عنها لا في البيانات فحسب، بل في المنجز الفني و جدران المعارض ذاتها. في مؤتمرات الشعر تتأجج الحماسة وتتفهرس الأصوات في قبائل وفرق، فلا تأتي النصوص إلا توابع أو ملاحق لأيديولوجيتها. فقصيدة الشعر مثلا يراد منها كما يفصح المصطلح حصر الكتابة الشعرية في قصيدة تنتمي لأعراف وقوانين الشعر الحر التي لم يعد خرقها أو اختراقها جرما أو خروجا ومروقا على الشعرية، بل تعديلا لها وتنويعا وتحريكا لجسد القصيدة كي لا تتجمد أو تتيبس خلاياها. وهذا السجال المؤتمراتي سيثير شهية المتمترسين خلف أنواع اخرى، كأنْ تعقد مؤتمرات لقصيدة العمود والقصيدة الوطنية أو الاجتماعية، وتتداعى المسميات ويزداد الخطاب الشعري والنقدي بلبلةً بتكاثر مصطلحاته ومفاهيمه وبتراجع جمالياته، فنيا كما حصل مرة في اقتراح إحدى المؤسسات الشعرية لمسابقة للقصيدة العمودية، ولم يعترض إلا قلة أرادوها مسابقة للشعر فحسب، دون تقييده بشكل ما. وبعودة لأحدث اللقاءات المقترحة حول قصيدة الشعر نلاحظ المفارقة في التسمية فالشعر بحسب النظريات الأدبية جنس أدبي تولد من رحمه القصيدة التي تعيد تمثيل ما استقر من ثوابت فنية ؛ لتتلقفها الذائقة الجمالية للمتلقين، وتتمسك بها بآليات دفاعية هي بعض أسرار الحفاظ على النوع! ولكن تاريخ الشعرية يعلمنا أن الشعر يثبّت القواعد بينما تخرقها القصيدة في لحظة ما؛ لتنجز الطفرة التي تتهيأ هي ذاتها لتكون موضع اختراق لاحقا، وهكذا تكرّ دورة التجديد والتحديث: كلما تمردت القصيدة كنص، على الشعر المكرس بثوابت وسماتٍ ما، تغير شكل الكتابة ومحتواها، وصار تقبلها ممكنا بأعرافها الجديدة. وفي مسار القصيدة لا تضيف المؤتمرات الكثير لشجار النصوص ذاتها وعراكها وكدّ شعرائها داخل أسوارها، لا على هوامشها أو حواشيها.