سلاماً أيها الرداء الطويل المطرز باللؤلؤ والمرجان وغناء النوارس. سلاماً لفيضك وانحسارك. لمدك وجزرك. سلاماً لسنابل الطحلب تلهو بها الأسماك. للحيتان التي تحرس كنوزك من لصوص القراصنة. سلاماً لهدوئك وصخبك. للسماء تلون ماءك بالغيوم وبالظلام وبالضياء. وللرياح تلهو بموجك كما تشاء، وأنت ماضٍ في السهو، وفي نشيجك، تواري الخديعة بالملح وبالزبد. انظر إلينا، كم نحن غرقى نحنُّ لمرافئك، ونرتد مرتعدين من قسوة اليباس. فالأرض مكتظة بالحوانيت وبالمجازر، وما من سلام يحنو عليها. هي التي تفتحت أحضانها كامرأة طال بها الغياب. وأنت مهاجر أبدي تراوغها، وترمي رذاذك وتنسل مخاتلاً، لا وجه غير وجهك تحتويه. لا مرّ غير ملحك تشربه ولا رداء غير أزرقك المبجل. تركوا لنا..؟ لا.. لم يتركوا إلاّ العويل يرن كالأجراس من رعب على نوافذنا. لم يتركوا إلاّ نثيث الدم نقوشاً في منازلنا! ها أنت لاهٍ بالمجاديف، وبالطحلب، باللؤلؤ المنسي في جوهرك الغامض. انتبه قليلاً كي ترى أن لا قناديل تلوح لغرقانا، ولا سفينة تلقي بمرساتها لمن يطفو قليلاً. ولا شراع في مداك نهفو إليه، ولا يدَ تمتد بالسلم إلينا! انظر لوهمك إذ تدفق الماء المبارك وتنسى أننا من رهبة الإبحار توّجناك، فشربت، وطوّحت بمن لاذوا إليك. ومضيت وحدك مفتوناً ومتّئداً!
أتذكر ذات صبح غامض همست لي بالسر. كانت الريح على مقربة تسترق السمع، والموج من حزنه مضى في النشيج. وحدي حفظت السرّ، والريح خائنةٌ وبعثرته في البيوت! ها أنت وحدك ترقب الإنسان وهو يذهب في الحرائق. اذهب بعيداً أيها الماء الملوث بالعمارات، فنحن من خشيتنا عليك باركناك بالعشق وتوجناك بالريحان. اذهب.. وقل لي أيها المأسور من سمّاك بحراً أو خليجاً. وأنت لا شطآن لك، ولا خلجان تؤوي التائهين؟
خذ ما أعطيتنا عبر التواريخ القديمة كلها. خذ ما أعطيتنا عبر التواريخ الجديدة كلها. خذ لآليك التي أحصت جماجمنا. خذ الشباك التي اصطِدنا بها. خذ السفن التي رحلت إليك ولم ترجع إلينا إلا حطاماً أو شظاياً. خذ ما تشاء، خذ ما تشاء، واترك لنا من مياهك قطرتين فلربما نطفئ بها الحرائق التي أشعلتها الضلالة ونزرع بها بذرة في تربة أحلامنا. يا أيها البحر الذي همست أسراره لتنذرنا خذنا إليك فقد عصف اللهب، ولن ينجو رضيع من الحرائق. خذ أحلامنا التي صغناها في غفلة الموت والجلاد. أعد إليها عافية الملح، فقد فسد الهواء والماء والأشجار، كما فسد التراب!